رواندا. . من الحروب الأهلية إلى معجزة اقتصادية عالمية
14 يونيو 2022
صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان
رواندا . . تلك الدولة الصغيرة . . كيف استطاعت أن تتغلب على حروبها الأهلية وتنهض باقتصادها، لتصنع معجزة اقتصادية، وتصبح في طليعة الدول المتقدمة ؟ وللإجابة على هذا السؤال استأذن القارئ الكريم بتقديم معلومات مختصرة عن كيفية حصول تلك المعجزة الاقتصادية.
تقع رواندا في وسط الشرق الإفريقي، ولا تتجاوز مساحتها 26 ألف كيلومتر مربع، وعدد سكانها حوالي 12 مليون نسمة عاصمتها “مدينة كيجالي”. استقلت عام 1961 ونظام الحكم فيها جمهوري. وقد غرق هذا البلد في مستنقع الحروب الأهلية، بعد أن هبط عليها الاستعمار الألماني عام 1885، ثم تبعه الاستعمار البلجيكي عام 1922. فقد عمد البلجيكيون إلى زرع الفتنة وإذكاء العصبية بين أكبر قبيلتين في البلاد هما الهوتي عمال الزراعة 80 % من السكان، والتوتسي ملاك الأراضي 20 %.
ففي عقد الخمسينات من القرن الماضي اندلعت الاشتباكات بين القبيلتين فيما عُرف بِ ” ثورة فلاحي الهوتو ” وتمت الإطاحة بقبيلة التوتسي كطبقة حاكمة، وإجبارهم على الفرار إلى المنفى في الدول المجاورة، واستمر الصراع بين مكونات المجتمع الرواندي. فشَكّلتْ قبيلة التوتسي ” الجبهة الوطنية الرواندية ” والتي أقدمت في عام 1991 على غزو قبيلة الهوتو، الذين صدّوا الهجوم.
في عام 1994 أسقطت طائرة الرئيس الرواندي المنتمي إلى قبيلة الهوتو، فاشتعلت الحرب الأهلية من جديد بين القبيلتين، واستمرت لمئة يوم تخللتها إبادة جماعية وقع ضحيتها مليون قتيل من الطرفين، واستولت قبيلة التوتسي على الحكم، ونزح الهوتو خارج البلاد خشية الانتقام.
استقال الرئيس الرواندي ” بيزي مونجو ” عام 2000، بعد أن فشل في إدارة الدولة وغرقت البلاد في فوضى عارمة. فتولى السلطة نائب الرئيس ” بول كاغامي ” الذي ينتمي إلى قبيلة التوتسي، فنقل البلاد من عصر الفوضى والدماء إلى عصر المصالحة الوطنية والوحدة والتنمية. لقد عرف الرئيس الجديد أن مسار التفرقة العنصرية لا يؤدي بالبلاد إلاّ إلى مزيد من الدماء والحروب وتراجع البلاد.
اختار الرئيس الجديد مسار الوحدة والتنمية والمعرفة، وارتكزت سياسته على عاملين أساسيين، الأول توحيد الشعب المنقسم، والثاني انتزاع البلاد من الفقر، معلنا قولته الشهيرة: ” لم نأتِ من أجل الانتقام، فلدينا وطن لنبنيه، وبينما نمسح دموعنا بيد، سنبني باليد الأخرى “. نجح الرئيس كوغامي في سياسته، وحقق المصالحة بين أفراد المجتمع، فعاد اللاجئون إلى بلادهم، ونُظمت محاكم محلية لإعادة الحقوق لأصحابها وإزالة المظالم، ثم قام بالأعمال التالية:
1. أقر دستورا جديدا يلغي الفوارق العرقية، وحضر استخدام مسميات الهوتو والتوتسي، وجرّم استخدام إي خطاب عرقي.
2. شكّل حكومة وطنية أخذت فيها النساء نصيبا وافرا من الوظائف.
3. أطلق مشروع رؤية 2020 بهدف تحقيق نهضة تنموية شاملة على ثلاث مديات: المدى القصير ويتمحور حول تكوين الثروات وتقليل الاعتماد على المعونات والديون الدولية. والمدى المتوسط يتمحور حول التحول من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد المعرفي، من خلال تطوير التعليم والتكنولوجيا والاتصالات. والمدى البعيد يتمحور حول خلق طبقة وسطى منتجة، وتعزيز روح المبادرة لديها عبر تمكينها من خلق الثروة، والمساهمة في تطوير اقتصاد البلاد. وهناك أيضا رؤية 2035 ورؤية 2050، واللتان تتطلعان للارتقاء بالبلاد إلى مصاف الدول المتقدمة ذات الدخول العالية.
4. قام بمجهود كبير في الجانب التعليمي وتثقيف الشباب، والاهتمام باللغات المحلية والأجنبية، وبث الروح الوطنية بينهم.
5. اهتم بالجانب المعلوماتي والتكنولوجي والانفتاح على العالم الخارجي.
6. عمل على تطوير الاقتصاد بشكل عام، فأصبحت رواندا من الدول الرائدة في مجال النمو الاقتصادي، حيث سجل اقتصادها النمو الأكبر على مستوى العالم. فخلال الفترة من عام 2000 – 2015 حقق اقتصادها نموا في ناتجه المحلي بلغ 9 % سنويا، وارتفع الناتج المحلي عام 2016 إلى 8.5 مليار دولار مقارنة بِ 2.6 مليار دولار عام 2005. وأخذت السياحة وحدها تحقق دخلا بما نسبته 43 % من الدخل الإجمالي المحلي في البلاد. كما ارتفع مستوى دخل الفرد 30 ضعفا عما كان عليه قبل عشرين عاما، وتراجعت معدلات الفقر والبطالة، وتناقصت نسبة الأمية.
7. صُنّفت رواندا كأول دولة إفريقية جاذبة لرجال الأعمال، وحصلت العاصمة كيجالي على عدد من الألقاب التي تُعلي من مكانتها في العالم، منها على سبيل المثال : الأكثر أمنا في إفريقيا، الأنظف بين عواصم إفريقيا، أيقونة التنمية الإفريقية الحديثة.
8. أصبحت رواندا تحتضن العديد من الملتقيات الاقتصادية والقمم الإفريقية.
9. في 27 فبراير 2018 أطلقت رواندا قمرا صناعيا للاتصالات، من مركز كوروا للفضاء في غويانا الفرنسية، لربط المدارس والمناطق الحضرية بالأنترنت المجاني، والانتقال لشبكات الكوابل الضوئية.
لم يلجأ الرئيس كاغامي إلى البنك الدولي للاقتراض، ولم يستجدِ المساعدات من الدول الإفريقية أو العالمية، ولم يركب طائرته بين فترة وأخرى، لتوطيد علاقات بلاده مع دول العالم، ولم يبحث عن المستثمرين، ولم يعين حاملي الشهادات العالمية في وظائف الدولة الحساسة، ليضعوا خطط النهضة في البلاد، بل شكّل حكومة وطنية من المعروفين بإخلاصهم للوطن، وجلس معهم في مقر الحكومة، يستشرف ويخطط لمستقبل البلاد.
وهكذا نهضت هذه الدولة الزراعية الصغيرة من تحت مظلة الفقر والجوع، وتجاوزت التفرقة العنصرية والإبادة الجماعية التي أودت بحياة مليون إنسان، لتصنع معجزة اقتصادية عظيمة، بهمّة وإخلاص قائدها الوطني بول كاغامي في أقل من عقدين، فاستحق لقب ” رائد نهضة رواندا الحديثة “.
هناك دول عديدة في جنوب شرق آسيا وكذلك في المنطقة غير العربية من إفريقيا، كانت تفتقر إلى مصادر الثروة الطبيعية، وتعاني من الفقر وهيمنة الأجانب عليها، ثم واجهت الحروب الأهلية، ولكنها حققت سيادتها، وصنعت نهضة اقتصادية انتشلت سكانها من معاناتهم، لتصبح في طليعة الدول المتقدمة. من هذه الدول على سبيل المثال، ماليزيا، اليابان، كوريا الجنوبية، سنغافورة، تنزانيا.
ومقارنة مع الأردن التي دخلت في مئويتها الثانية واستقلت في عام 1946، ولديها من الثروات الطبيعية، ما يمكنها من الاكتفاء وتحقيق الفائض من الأموال، لتصبح من الدول المتقدمة، إلاّ أنها فشلت في استغلال تلك الثروات، وأقدمت على بيعها لمستثمرين أجانب، وبالمقابل راحت تقترض الأموال من البنك الدولي، وتنتظر المساعدات من الدول فاعلة الخير.
لقد صدع رؤوسنا المنظرون الحكوميون بخطط الإصلاح الاقتصادي والإداري، منذ ما يزيد على عقدين من الزمان، ولكنها لم تحقق النتائج المرجوة في كلا النوعين من الإصلاح. وها نحن اليوم نستقبل بشائر ” رؤية التحديث الاقتصادي للسنوات العشر القادمة “، والتي نأمل أن لا تلحق بسابقاتها.
وكلمة أخيرة أوجهها إلى المنظرين والمخططين في الدولة: لا نريد خططكم وابتكاراتكم التي تَعِدوننا بها، وكل ما نريده هو أن تنقلوا عن التجربة الآسيوية أو الإفريقية، كيف تمت النهضة الاقتصادية بتلك البلاد، وأن يجري تطبيقها مع التعديلات المناسبة إن لزم، على أن يتولاها رجال أمناء مخلصون للوطن، ويتقون الله فيما يفعلون . . !