أضم صوتي للدعوة التي أطلقها، أول أمس، المركز الوطني لحقوق الإنسان، بالإفراج عن الناشطين الذين جرى توقيفهم مؤخرا، لا يوجد لدي أي تفاصيل عن الأسباب التي دفعت لتوقيفهم، لكن ما أعرفه أن التوقيف تدبير استثنائي، وله معايير يجب الالتزام بها، كما أن حرية الرأي والتعبير حق مقدس للأردنيين مثل كل البشر. ما أعرفه أيضا، أن المناخات السياسية تسير أحيانا بعكس اتجاه مقررات التحديث، ووعود الإصلاح، وهذا ليس في مصلحة بلدنا، فقد سبق وجربنا “وصفة” تعكير المزاج العام بمثل هكذا إجراءات، وثبت أنها غير ناجحة، ومضرة أيضا. قبل أقل من شهر، سمعت من رئيس الوزراء، أثناء لقائه الكتاب ورؤساء التحرير، وعدا صارما بعدم توقيف أي شخص في قضايا الحريات العامة، حينها قال الرئيس بالحرف: إن القضاء هو الفيصل والطريق الوحيد للنظر بأي قضية تتعلق بحرية التعبير، وأن ما حدث (في إشارة لتوقيف طلبة الجامعات) لن يتكرر، كان الرئيس، بتقديري، صادقا فيما قاله، لكن لا أدري لم تكرر المشهد، ولم لم تبادر الحكومة لاتخاذ ما يلزم من إجراءات للإفراج عنهم حتى الآن؟ لا يوجد أحد محصن من الخطأ، لكن ثمة فرق كبير بين من يخطئ وقلبه على بلده، وهمه إصلاح الواقع الذي يعيش فيه، وبين من يتعمد إلحاق الأذى بالبلد والناس، وثمة فرق أكبر بين من يزل لسانه بالخطأ وبين من يمد لسانه ويده وينهش بلده، دون أن يرف له جفن، أو ينخزه ضمير، معظم الناشطين الذين يتحركون ويصرخون، قد يدفعهم حماسهم أحيانا للخطأ، أو تأخذهم غيرتهم على البلد لتجاوز المألوفات الوطنية، هؤلاء من السهل أن نكتشف، في أبسط حوار معهم، أنهم أحرص من كثيرين على أمن البلد ومصالحه. ميزة الدولة الأردنية، أنها أدركت منذ تأسيسها قيمة معادلة “الاحتواء” بالمعنى الإيجابي، فلم تمارس العنف مع الأردنيين، وحتى حين تقسو فسرعان ما تتراجع وتذهب لتطييب الخواطر، وفق ذلك نشأت علاقة فريدة من نوعها بين النظام السياسي والشعب، تبادل فيها الطرفان السماحة والثقة والاحترام المتبادل، وأنتجت بلدا آمنا مستقرا، تجاوز أزماته وكل المحن التي واجهته، بفعل قناعات وإحساس مشترك، بأن الجميع” أسرة واحدة”، قد تختلف فيما بينها، لكنها لا تقطع حبال المحبة بين أفرادها. استدعاء مثل هذه المعادلة الذهبية، والتذكير بها، لا يتعلق، فقط، بالدعوة للإفراج عن الموقوفين في قضايا حرية التعبير، ولا بترطيب المناخات العامة التي أصبحت تضغط على أعصاب المجتمع، ولا بإعادة موازين العدالة لتنتصب أمام الجميع دون استثناءات، وإنما تتعلق، أيضا، بضرورة تدشين مرحلة جديدة، عنوانها ” المصالحات” الوطنية، بما تقتضيه من إعادة الدولة ومؤسساتها للقيم التي تأسست عليها، السماحة والعفو و” الأبوة”، وإعادة الأردنيين إلى دولتهم، على أساس الثقة والانتماء والتضحية والاعتزاز. بموازاة ذلك، لا بد من التذكير بمسألتين، الأولي أن مزاج الدولة، خاصة عند احتدام الأزمات، يفترض أن يكون مضبوطا على ساعة “الحكمة” والاستيعاب، وإذا كان المزاج العام للناس يتعرض، الآن، لضغوطات واضطرابات، تدفع البعض للتجاوز هنا وهناك، فإن من واجب الدولة أن يتسع صدرها بما يسمح لتصحيح أي خطأ، بأقل ما يمكن من خسائر. أما المسألة الثانية، فهي أن رأسمالنا الوطني هو ما تحظى به بلدنا من سمعة طيبة في مجالات حقوق الإنسان من جهة، وبما يحتاجه ويصر عليه الأردنيون من كرامات شخصية تعكس كرامتهم الوطنية، صحيح أننا شهدنا، للأسف، تراجعات بمؤشرات الحريات، لكن الصحيح، دائما، هو أن الأردنيين حريصون على سمعة بلدهم، مثلما هم حريصون على حقوقهم، وبالتالي فإن الخروج من هذه الالتباسات غير المفهومة، مصلحة عامة لا يجوز لأحد أن يدفع بعكس اتجاهها، أو أن يضغط على أعصاب الناس للتشكيك فيها، والتنكر لها أيضا.