القصة التالية حدثت فعليا قبل 20 عاما وحان وقت روايتها علّها تنفع المعنيين، علما بأن بعض شخوصها ما زالوا أحياء أمد الله بأعمارهم، وبعضهم أنتقل إلى جوار ربهم عليهم رحمة الله.
فبعد إحالتي على التقاعد بسبع سنوات، ولمعرفتي بقضايا الضباط والأفراد من خلال تجربتي السابقة، كمدير لشؤون الضباط ثم مساعدا لرئيس الأركان للقوى البشرية، فقد شكلت لجنة من المتقاعدين سمّيتها ” اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين ” مهمتها المطالبة بحقوقهم المادية المنقوصة، خاصة بعد ما استجد من تعديلات على الرواتب والعلاوات، ضاعفت الفجوة بين مستحقات المتقاعدين القدماء والجدد. وقد حاولْتُ خلال خدمتي الفعلية تصحيح بعضها، فنجحت في البعض وتعسرّتُ في البعض الآخر.
وهكذا رحت أعقد الاجتماعات للمتقاعدين العسكريين، وإجراء لقاءات لهم مع المسؤولين، وعلى رأسهم جلالته ورئيس هيئة الأركان المشتركة ورئيس مجلس النواب، وذلك لشرح قضاياهم ومصادر شكاواهم. فتمكنا من تعديل بعض رواتب وعلاوات قسم من الضباط بمبلغ 24 مليون دينار أضيفت على الموازنة كمرحلة أولى، يتبعها وعد بمرحلة ثانية، تشمل بقية الضباط والأفراد حتى رتبة جندي. وعلى إثر ذلك قامت ضدي حملة مصطنعة، بأنني أعمل ضد الملك وضد الحكومة ومحاولة الإخلال بالنظام العامّ.
ولهذا قابلت جلالة الملك في أوائل شهر آب 2002، وحضر تلك المقابلة أحد وعّاظ السلطان في الديوان الملكي. قلت لجلالته أنني جئت لمقابلتكم لأبين موقفي من الاتهامات التي يطلقها البعض، بأنني أعمل ضد الملك والحكومة والإخلال بالنظام العام. والحقيقة هي أنني شكلت هذه اللجنة، لضبط المطالبات الفردية من قِبِل المتقاعدين العسكريين، وتقديمها بشكل منضبط وبأسلوب حضاري إلى المعنيين لمحاولة حلها.
فإن كان جلالتكم مقتنعا بتلك الاتهامات أرجو أن تحيلني إلى المحكمة. أجاب جلالته بأنه غير مقتنع بها ولا أثر لها عنده. فقلت: إن تلك الاتهامات أساءت لسمعتي عند أقاربي وفي المجتمع بشكل عام، وبما أن جلالتكم غير مقتنع بها، أرجو أن تعملوا على رد اعتباري بالطريقة التي ترونها مناسبة.
وهنا تدخّل الواعظ الذي كان جالسا معنا ومستمعا للحوار، فقال موجها كلامه لجلالته، سيدي: الباشا يكتب مقالات في الصحف أفضل من كثير من الكتاب، وأقترح أن يكتب مقال أو مقالين عن الهاشميين. فرددّتُ قائلا: سيدي يشرفني أن أكتب عن الهاشميين، ولكني لست مؤرخا لأفعل ذلك، وكل ما في الموضوع، أنني عندما أشاهد أو أقرأ ممارسة خاطئة من أحد المسؤولين، أعلّق عليها مبينا وجهة نظري ومقترحا حلا مناسبا لها حسب رأيي ، قد يؤخذ أو لا يؤخذ به.
تدخّل جلالته وقال: لا يا دكتور . . بدي اياه يُحضّر 20 – 25 شخص من أقاربه وأجتمع بهم في منزله. فقال الواعظ إذن لتكن بعد أشهر حتى ننتهي من قضية شارون ( كان شارون في تلك الفترة قد استباح باحات المسجد الأقصى، وقامت على أثرها اشتباكات متعددة بين المتطرفين اليهود والمواطنين المقدسيين ). فقال جلالته لا . . خلال الأسبوعين المقبلين. فقلت أن هذا تكريم وردّ اعتبار كبير لي.
وبتاريخ 9 / 9 / 2002 عُقد الاجتماع تحت رعاية جلالته مع شباب العدوان المدعوين، وتحدث ببساطة عن الأوضاع المحلية والدولية، ثم طلب من الحضور إبداء أية ملاحظات عن أحوالهم العامة. فكان الجميع في غاية الأدب والإدراك خلال حديثهم وعرض مطالبهم، إذ كانت مطالبهم تهم مصالح جميع أبناء منطقتهم، وهي كالتالي:
• تحدث أحدهم نيابة عن الجميع في قضايا المياه والزراعة، وتم أخذ ملحوظات بها على كثرتها لمعالجة الممكن منها مع المعنيين.
• تحدث آخر عن أسعار الكهرباء في الأغوار قائلا: نحن ملتزمون في البقاء قريبين من مزارعنا وأراضينا صيفا وشتاء. وفي الصيف نضطر لاستخدام المكيفات العراقية، لنتمكن من النوم في ليالي الحر الشديد. ولكن شركة الكهرباء تحاسبنا على أثمان استهلاك الكهرباء، كما تحاسب القاطنين في عمان وفي مناطق الشفيات، ذات الأجواء المعتدلة نسبيا.
فنرجو أن تخفّض الشركة أسعار الكهرباء على سكان مناطق الأغوار مساعدة لهم. فتدخّل الواعظ قائلا: ليستعملوا المراوح بدلا من المكيفات فيوفرون عليهم استهلاك الكهرباء. فقال جلالته للواعظ: تحدثوا مع الشركة لتخفض أسعار الكهرباء صيفا على سكان الأغوار. وفعلا تم ذلك ولكن لفترة معينة، ثم عادت لترتفع كما كانت.
• قال آخر، أننا نرسل طلابنا للدراسات العليا في جامعات المناطق الشمالية والجنوبية، وهذا يكلفنا مبالغ كبيرة من حيث السكن والمواصلات للطلاب، ونرجو إنشاء جامعة في الشونة الجنوبية، لتخفف علينا النفقات المالية ويبقي طلابنا تحت إشرافنا. فتدخل الواعظ وقال: يوجد لديهم في مدينة السلط جامعة البلقاء ويمكنهم ارسال طلابهم إليها. فقال جلالته: لابد من إنشاء جامعة في الشونة لتستوعب طلاب الأغوار وتخفف عليهم النفقات. وبعد بضعة أشهر أبلغني رئيس جامعة البلقاء، بأنهم بناء على ذلك الاجتماع، قرروا فتح فرع للجامعة في بلدة الشونة الجنوبية.
في وقت لاحق، جرى تعييني سفيرا في الباكستان اعتبارا من بداية عام 2004 لسبب لا أجهله. وبعد أن أنهيت عملي هناك في منصف عام 2006 وعدت إلى الأردن، سألت عن فرع الجامعة الذي تمت الموافقة عليه فلم أجد له أثرا. استفسرت من إدارة جامعة البلقاء عن ذلك، فأفادوا بأن كتاب أنشاء فرع الجامعة استلمه نائب لواء الشونة لمتابعته. فبحثت في وزارة التعليم العالي وفي رئاسة الوزراء ولكن لم أجد أية معلومة تدل على ذلك، ويبدو أن تلك الموافقة قد تبخرت مع حرارة صيف الأغوار.
• ومن ناحيتي فقد طرحت مطلبين:
1. المطلب الأول ( ناقل البحرين ) : طلبت من جلالته بذل جهوده في تنفيذ مشروع ناقل مياه البحرين، والذي جرى بحثه في مؤتمر دكار بالسنغال. وقلت بأنه سيغير وجه المنطقة الجنوبية، حيث أن توفر المياه من خلال الناقل، سيوسع الرقعة الزراعية في المنطقة، وسيشجع على انشاء المجمعات السكنية ويبعث الحياة في المنطقة الخالية. قال جلالته، سأحاول تنفيذ ذلك المشروع، والغريب أن الأجانب وافقوا عليه، ولكن العرب هم من المعترضون عليه.
2. الملاحظة الثانية ( حجز البنوك على أملاك المواطنين ). قلت بأن المواطنين استبشَروا خيرا ببركات السلام الموعود بعد اتفاقية وادي عربة، وقاموا بالاستدانة من البنوك لإقامة مشاريع صغيرة تفيدهم، ولكنها تعثرت ولم يستطع المدينون تسديد التزاماتهم. وإذا ما تصفحت جريدة الرأي الأردنية مثلا، فستجد أنها تنشر إعلانات للحجز على أملاك المواطنين، باتساع عشر صفحات كاملة يوميا.
فإذا استمر الحال على هذا المنوال، فستجد في يوم قادم، بأن أسماء المحافظات قد تغيرت، لتحمل كل محافظة أسم بنك معين، بعد أن استولت البنوك على أراضي وعقارات المواطنين. وليس المطلوب شطب تلك الديون عنهم، فهي أموال مواطنين آخرين أيضا. ولكن المطلوب تخفيض نسبة الفوائد عليهم، وإعطائهم فترة سماح أطول ليتمكنوا من سداد ديونهم. فصدرت التعليمات بذلك وجرى تنفيذها لفترة محدودة، ثم عادت لسابق عهدها.
ختاما أقول: أن هذا الواعظ، هو نموذج لكثير من الواعظين، الذين يستظلون بمظلة رئيس الدولة، فيقفون عثرة في طريق الخير، بدل أن يكونوا فاعلين له، يساعدون الناس في حل مشاكلهم بدلا من تعقيدها، ويخدمون ولي نعمتهم في حمل جزء مهما كان بسيطا من مسؤولياته.