صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان
يصف قائد إحدى كتائب الدبابات في الجيش المصري ، مشاعره عندما استشهد أحد ضباطه في بداية اشتباك مع العدو، بلغة أدبية بليغة، كما ورد في كتاب الأديب المعروف يوسف السباعي بعنوان : ” من العالم المجهول ” أقتبس جزءا منه بتصرف :
يقول قائد الكتيبة : “بدأت دباباتنا مسيرة في عجلة تجاه الشمال، فقد أنبأتنا الرئاسة أن العدو احتل ببعض عرباته موقعا يشرف على الطريق، وأن علينا إجلاءه بكتيبتنا حتى نطهر الطريق، ونعيد المواصلات بيننا وبين قواتنا الموجودة شمالا.
كان الوقت قبيل الفجر، ولم نؤخذ على حين غرة، فقد قضينا الليل في يقضة دائمة، إذ كانت المعركة دائرة على أشدها، وكان الدويّ يُسمع في كل مكان، واللهب يبرق هنا وهناك مبددا حلكة الظلام. كان العدو قد بدأ هجومه الغادر، واستعر إوار المعركة في شتى المواقع . . وأخذت مشاتنا ومدفعيتنا تصليانه نيرانهما، فتردانه على أعقابه مخلفا وراءه بساطا ممتدا من جثث القتلى، تاركا الأرض وقد بدت مكدسة بالأجساد كأنها ورقة الذباب.
طلبت من اليوزباشي ( النقيب ) محسن أن يأمر السرية الأولى بأن تأخذ مكانها في المقدمة، لكي تستكشف مواقع العدو وتعجم عوده وتستطلع قوته. كان قائد السرية ألأولى مريضا وعُين بدلا منه شاويش السرية، فطلب محسن أن يقود هو السرية في تقدمها للاشتباك مع العدو. وبعد لحظات كان محسن قد اتخذ موقعه في إحدى دبابات السرية الأولى متقدما بها على رأس كتيبة دبابات الاستطلاع.
وقفت في برج دبابتي أرقبه يتباعد بسريته . . وبدت الدبابات على خط الأفق سوداء قاتمة وقد علا حولها الغبار، وأخذ ضجيجها يخف رويدا رويدا . . حتى لم نعد نبصر منها إلاّ أشباحا باهتة، ولا يصل إلى آذاننا من صخبها وضجتها إلاّ ما يشبه الهمهمة والهمس.
وتحركت رئاسة الكتيبة وبقية السرايا . . ولاحت لنا الشمس تتسلل من وراء الأفق خلف الروابي والآكام . . حمراء الضوء . . ارجوانية الشعاع . . كأن بها جرحا يدمي . . وكأن أشعتها القانية دماء تُراق على رمال الصحراء. إيه يا شمس . . ! لقد رأيت شروقك فيما مضى . . فكنتُ أبصر في حمرته لون الورد ولون الخدود . . لشد ما تنكرتِ وتغيرتِ واستبدلتِ بشعاع الورد شعاع الدماء. أم ترى التغير قد أصاب العين التي تراكِ . . فلم تعد تبصر منكِ إلاّ صورة لما حولها من دماء ولهيب ؟
وثارت من حولنا عند حركتنا الضجة وعلا الغبار، وانتشرت بضع دبابات ذات اليمين وذات اليسار، لتحمي القوة في أثناء تقدمها . . وأخذا نمعن في السير . . وبين لحظة وأخرى تحمل الينا رسالة من سرية المقدمة بأن العدو لم يبدُ بعد . . حتى وصلتنا الإشارة الإيجابية الأولى، تحمل في طياتها أن العدو قد ظهر ببضع عربات عن يميننا، ثم رسالة أخرى بضع عربات عن يسارنا، ورسالة ثالثة تتساءل هل : نشتبك ؟
وتناولت مايكرافون اللاسلكي وتحدثت مع محسن على الجهاز، واستفهمت منه بشيء من التفصيل، ثم أمرته بالاشتباك. ووقفنا منتشرين في أماكننا، واتخذت الدبابات بقدر من الاستطاعة سترا من ثنيات الأرض . . وحملت الريح إلى آذاننا أولى الطلقات تدوّي من بعيد . . فعلمنا أن الاشتباك قد بدأ. واستمر الدوي يعلو حينا ويخفت حينا .. ووصلت إلينا الرسالة بعد الرسالة تنبئنا بأن الاشتباك مستمر، وأن العدو يرد على نيراننا بما ملكت نيرانه، وأن المعركة على أشدها متأججة اللهب مستعرة الإوار.
وفجأة وصلت إليّ رسالة احسست منها بهزة في جسدي، كأن هناك مطرقة أصابت مؤخرة رأسي . ولم يكن ما جاء فيها أكثر من ( أصيبت دبابتي ). ولم تمضِ بضع ثوان حتى تلتها طرقة أخرى . . أو طعنة أخرى أصابت حشاي . . ولم تكن سوى ( إني أموت) . . أجل إن محسن يموت . . !
إني أبكي وأنا أكتب ما أكتب . . رغم أنه لم يكن لدي وقتذاك فرصة للبكاء . . فقد سلبتني قسوة الموقف كل ما بي من حس وشعور . . وكان يخيل لي أني لم أعد من دم ولحم، بل من حديد وحجارة . . وكنت أشبه بإنسان ألقي به في بحر من الجليد، فتجمدت أطرافه حتى فقد إحساسه “. اتنهى.
* * *
التعليق :
هكذا يصف القائد كيف تصاب مشاعره بالحزن والأسى، عند إصابة كل ضابط وجندي من جنودة في ميدان المعركة، حتى وإن لم يصب هو شخصيا بجسمه. وهذا إحساس قد يفتقده الموظفون المدنيون من وزراء ومدراء، وخاصة من يهبطون منهم على المواقع بالمظلات، دون أن تتوفر بهم الشروط المطلوبة، بل يجري ذلك من خلال تواصي المتنفذين والمتنفذات في الدولة.