نقرأ في إحدى الروايات عن سيدة مسنة كان لديها إنائين تحضر بهما الماء في كل يوم إلى منزلها، أحد الانائين كان به شرخ يتسرب منه الماء أما الآخر فكان سليم من العيوب، لذلك كان الماء يصل كاملاً في الاناء السليم بينما يصل ناقصاً حتى النصف في الآخر، وإستمر الأمر على هذا النحو عامين حتى جاء من يلوم السيدة على إحتفاظها بالاناء المشروخ كل هذه الفترة وعدم تبديله والتخلص منه، إلا أن السيدة أجابت: ألم تلاحظ الزهور على جانب الطريق من ناحية الإناء المشروخ، لقد كنت أعلم بالماء الذي يتسرب من ذلك الاناء طوال تلك المدة ولذلك زرعت البذور على طول الطريق من جهته في طريق العودة إلى المنزل، وخلال هذين العامين قطفت من الزهور الجميلة ما زينت بها منزلي، فلو لم يكن ذلك الثقب الذي تراه أنت عيباً في ذلك الاناء ما كان لي أن أرى ذلك الجمال الذين يزين منزلي اليوم، ذلك لأنني كنت أبحث داخل تلك العيوب والثقوب عن الجمال الكامن داخلها لأرى جمال الكون من خلاله !
منذ إعلان الحكومة عن قراراتها الجديدة بفرض أنواع الضرائب المختلفة ورفع أسعار العديد من السلع والمواد والخدمات المقدمة للمواطنين ونحن نرى كل يوم إعلان لحملة مقاطعة جديدة بين أفراد الشعب الأردني، على أمل أن تنجح مثل هذه الحملات في التأثير على قرارات الحكومة وإيصال رسالة المواطن لها بأنه لم يعد قادراً على تحمل المزيد من الأعباء التي أثقلت كاهله، وخصوصاً بعد إخفاق مجلس النواب الممثل للشعب في إيقاف تلك القرارات أو الحد من آثارها، ومثل هذا الأمر لا يمكن لانسان عارف بحقيقة الأوضاع الاقتصادية في بلادنا أن يلوم من يقوم به بعد أن ضاقت به السبل للتعبير عن صعوبة حالته المادية، وطالما أن المقاطعة تتم بأسلوب حضاري ليس فيه إساءة أو تجريح أو تخريب أو إعتداء على أحد وإنما من خلال حرية شخصية خالصة، إلا أنه من المهم أيضاً بجانب محافظتنا على حريتنا في التعبير عن الرأي أن نعمل على المحافظة على نسيج تركيبتنا الاجتماعية بكل إختلافاتها وأطيافها، ذلك بأن لا يتغول أحد بأفكاره على الآخر ولا يرميه بالخيانة والعمالة لمجرد أنه لم يتوافق مع رأيه، فمن غير المعقول أن يتعامل من يقاطع مع غيره ممن قرر عدم المقاطعة على أنه خائن وغير منتمي للوطن.
إضافة إلى أنه من المنتظر من الحكومة تقبل آراء أفراد الشعب بكل إختلافاتها سواء إنتهجوا نهج المقاطعة أو غيره من السبل في التعبير عن الرأي بحرية طالما أن ذلك يتم برقي وبدون خرق للأنظمة والقوانين، على مبدأ راسخ بأن كل من هؤلاء محب لوطنه لكنه يعبر عن ذلك بطريقته الخاصة، وليس على مبدأ الضيق بهم ووالتضييق عليهم وعلى أفكارهم وتوجهاتهم وتخوينهم والاساءة إليهم، فلطالما كان الوطن يتسع للجميع ويفتح ذراعيه لكل بناته وأبنائه على الدوام، وتخيلوا معنا كيف ستكون جمالية لوحة الوطن عندما يبحث كل منا عن الجمال الكامن في كل من يعبر عن رأيه في هذا الوطن بدلاً من البحث عن عيوبه والاساءة إليه مهما إختلفت طريقته في التعبير عن حبه لوطنه وأهله، ولنحافظ على تقبل الرأي الآخر وعدم الاساءة إليه وإحترامه كما هو، فمن أراد أن لا يقاطع له الحرية في ذلك، ومن أراد المقاطعة قاطع كما تحب ولكن بعيداً عن أن تخون أحداً “بتشديد الواو وفتح الخاء وضم التاء”، فوطننا كان دائماً عنواناً للأحرار، وبأيدينا وعقولنا وإنسانيتنا نحافظ عليه ليبقى كذلك مهما كانت التحديات باذن الله تعالى.
م. عبدالرحمن “محمدوليد” بدران