صراحة نيوز – بقلم عوض ضيف الله الملاحمه
كنّا في وطني الحبيب ينطبق علينا المثل الفلاحي (( قليلين وجليلين )) ، اي ( على قد حالنا ) ، اي ( محترمين ، ولينا هيبتنا ) ، اي لم نكن دولة عظمى او متقدمة لكن كانت مواردنا المتاحة تكفي احتياجاتنا الوطنية بالعامية كنّا (( مستورين )) . كان لدينا جيشاً يشهد له العالم بالحرفية والإنضباطية والرجولة والبسالة والشجاعة والإقدام في ميادين النِزال ، سطر بعض البطولات ، رغم الإنكسارات ، كانت شجاعة جنودنا ، تُغطي النقص في التجهيزات والامدادات . كان لدينا اجهزة امنية حِرفيتها في الاداء عالية ، كانت الكثير من الدول تخطب ودها ، وتستنجد بها لاطلاعها على بعض المعلومات الامنية شديدة الخطورة والسرّية ، وأمننا الداخلي مُصان وفي احسن احواله ، كانت كل اجهزة الدولة ووزاراتها تؤدي اعمالها باتقان وحرفية تضاهي ارقى الدول حضارة وتقدماً واداءاً ، كان القائمون عليها يعملون على تطويع القوانين قدر الامكان لخدمة الانسان ، مع اضافة مسحة من الود والحرص على خدمة المواطن بسبب قربى او معرفة . وكانت النزاهة والشفافية في ارقى صورها . كانت مدينة الحسين الطبية تهفو لها أفئدة الاطباء والمرضى غير الاردنيين للتدرب او للعلاج فيها .. وكنا .. وكنا .. وكنا .
ذلك اصبح من التاريخ ، والمهم ، الى اي مدى انحدرنا !؟ وتراجعنا !؟ وانتكسنا !؟ على مستوى الخدمات الصحية عامة ، أذكر ان العالِم الطبيب الجراح / كريستيان برنارد ، الذي عمل اول عملية قلب مفتوح على مستوى العالم ، تم إجراء مقابلة تلفزيونية معه في ثمانينات القرن المنصرم ، وانا شاهدتها بنفسي ، طُرح عليه سؤالاً لم يتوقعه هو ، السؤال : لو إضطررت لعمل عملية قلب مفتوح لنفسك ، لا سمح الله ، من الطبيب الذي يمكن ان تُسَلِّم نفسك له ليجري لك عملية القلب المفتوح ؟؟ صمت لهنيهات ، وأجاب : أُسلم نفسي للطبيب الجراح الاردني / داوود حنانيا . وقيل له لماذا ؟ قال : لان نسبة نجاح العمليات التي يعملها اكثر من نسبة نجاح العمليات التي اعملها انا ، وذكر نسبة نجاح عملياته ، ونسبة نجاح عمليات الدكتور / داوود حنانيا . واعتقد انه قال : ان نسبة نجاح عملياته في ذاك الزمان ( ٩٪ ) ، ونسبة نجاح عمليات الدكتور داوود حنانيا ( ١٥٪ ) ، راجياً ان تعذروني فيما لو ان الارقام غير دقيقة .
كنّا ، كل شيء محسوب لدينا ، ومعروف ، وكنا نعرف الى اين نحن ذاهبون بالوطن ، كان كل شيء بمقدار ، ويتم تنفيذه باصرار ، لا افراط ولا تفريط ، لكن يجب ان اقول : لم نكن مثاليون ، لكننا نرنو للمثالية .
واجد انه من الضروري ان اذكر قصة حقيقية واعرف اسم الرئيس لكنني حبذت عدم ذكره : مرض احد الرؤساء ، وذهب للعلاج الى المانيا ، وطلبت حاشيته من ادارة المستشفى معاملة خاصة جداً تليق برئيس جمهورية . وطلبت الادراة من الطبيب المعالج ذلك ، سأل الطبيب من هو هذا المريض ، قيل له رئيس جمهورية ، سأل ثانية : كم سنة له في الحكم ؟ قالوا : له ( ٣٠ ) سنة ، قال الطبيب : والله لن اعامله معاملة مميزة ، بل سيتم التعامل معه مثل اي مريض في المستشفى ، سُئِل لماذا !؟ أجاب : لانه انسان فاشل ، يحكم كل هذه السنوات الطويلة جداً ولم يقدر على بناء منظومة صحية لمعالجته هو وشعبه .
ما حزّ في نفسي ، وآلمني كثيراً ، انه بعد مرور ( ١٠٠ ) عامٍ ، أي قرناً كاملاً من الزمن ، اي ( ١,٢٠٠ ) شهر ، اي ( ٤٣٨,٠٠٠ ) يوم ، نحول مرضانا ، الى مستشفى هداسا في القدس المحتلة !!؟؟ نستعين بخدمات طبية للعدو !؟ نلجأ الى عدونا الأول ، نستعين بخدمات كيانٍ غاصب لأرضنا وقدسنا ، وعمر هذا الكيان المغتصب أقل من نصف عمر دولتنا !؟ والأسخم ، نعم ، الأسخم ، اننا نحوّل قادتنا العسكريين ، قادة الجيش العربي المصطفوي ليعالجهم الصهاينة !؟ خدماتنا الطبية ، ذاك الطود الشامخ ، والمدينة المهيبة ، والعسكري الأردني الأبي ، يُلتجأ به الى عدوه اللدود ، وسالب ارضه ، والذي تصنفه عقيدته العسكرية على انه العدو الأول والأخطر ، ليعالجه !؟ كيف تكون مشاعرة ، ونفسيته ، واين يذهب إباؤه ، وعِزته ، وشموخه ، وكبرياؤه !؟ كيف يلتزم بِقَسَمِ الجندية الذي اقسمه وتعود ان يبر بقسمه !؟
الهوان ألوان ، والإنحدار يشق المسار ، ولا إباء ، ولا شمم ، ولا مراعاة للضمير والذمم . أي ذُلٍ هذا !؟ وأي إذلال بلغنا !؟ يبدو ان الحقيقة التاريخية في عمر الشعوب تُنفذ الان في وطني الحبيب : فلا بد من ان يعقب الإزدهار ، إنحدار . نعممم ، ذهاب قادتنا الى مستشفى هداسا في القدس السليبة على كرامتنا وعزتنا داسَ . انه عين الهوان ، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم .