وَفَاءُ الكِلاب .. لِماذا يُعَاب

4 يونيو 2020
وَفَاءُ الكِلاب .. لِماذا يُعَاب

صراحة نيوز – بقلم عوض ضيف الله الملاحمه

الإنسان ( عَقَّار ) ، غدّار ، لا يُحسن الإنتقاء والإختيار في الفاظه وسلوكياته . الإنسان مُحترف في قلب المفاهيم ، والقِيم النبيلة ، فيتَعمّد الخَلّط لتشويه المَليح ، وتلميع القبيح . لأن الانسان بِعامته مُتقلِّب المزاج ، والتعامل ، والقناعات ، وتَبَنِّي الفرضيات الهوجاء الارتجالية ، واللااخلاقية احياناً .

النباتات ، والحيوانات ، وحتى الحشرات ، لها صفات وتصرفات ثابتة راسخة ، لا تتغير ، الاّ ما ندر . واليكم الأمثلة الدامغة الأكيدة التي لا غُبار عليها ولا تشكيك فيها منذ خلق الله سبحانه وتعالى الكون بعامته ، ثوابته راسخة ، الا في الانسان المتقلب ، الذي يعشق الانفلات ، والالتفاف على المُسلّمات . فالنباتات ، تَجهد ، وتَنمو ، وتُتحِفُنا بجمال مناظرها وحَفيف اوراقها ، ونستظِل بظلها ، وتعطينا من ثمارها ، دون ان تستفيد هي منها شيئاً ، حتى انها لا تتذوقها ، فلا حاجة للتأكد من جودة منتجاتها ، لانها لا تتلاعب ولا تغِش في المواصفات كما الانسان ، مواصفاتها ربّانية ثابته لا مُتغيرة كما يفعل الانسان ، وكل هذا العطاء والسخاء ، والكرم ، دون مِنة او تَبرُّم . وهاهي الأنهار ، والبحار ، والمحيطات لا تشرب مائها ، ولا تستغله لذاتها ، فنحيا نحن البشر بالماء بكل طرق استخدامه ، علاوة على تنظيفه لاجسامنا القذرة ، كنت اتمنى لو ان رب العباد العظيم قد سمح للماء بالتغلغل في جماجم بعض البشر لغسل أدمغتهم خاصة القذرة النتنه منها . وها هي الحيوانات بكافة اشكالها وانواعها واحجامها تُقدِّم لنا من الخيرات التي لا يمكن حصرها . ولم يتغير على سُنتها التي فطرها الله عليها شيئاً منذ أتم الخالق العظيم خَلقه ، لدرجة انها تستسلم لنا ، وتستأنس بنا ، ونغدر بها ، ونذبحها ، لنتغذى عليها بكل خِسة ، وغدر ، ونذاله .

ارجو ان تسمحوا لي ان اذكر حادثة غريبة ، لكنها عميقة الدلالة ، قوية التعبير عن مضمون المقال : قبل حوالي العقدين من الزمن ، وفي احدى الشركات الكبرى في الاردن ، والتي كان مديرها العام رجل اجنبي راقي ، وقائد ، واداري متميز ، حدث خلاف بين مدراء في الشركة اثناء احد الاجتماعات ، بحضور المدير العام الاجنبي ، فاشتد الخلاف حتى تحوّل الى شِجار ، كعاداتنا المتخلفة ، التي نذهب بها لأقصى الحدود ، ولا نفهم ان الخِلاف في وجهات النظر في العمل لا يعني العداء الشخصي ، وانه يُفترض ان لا تتم شخصنة الامور . تصاعد الخلاف الى ان وصل حد محاولة الاشتباك بالايدي ، كما اعتدنا على حصولة في مجالس ( نوائبنا او عاهاتنا) الذين يفترض انهم صفوة المجتمع لكن قانون الانتخاب المتخلف افرز الكثير من العاهات ، والقليل من الشخصيات المحترمة . بالعودة الى موضوع خلاف المدراء ، تلفظ احد المدراء على الآخر وقال له ( أنت كَلبْ ) ، عندها ثارت ثائرة الآخر ، وتعقّد الامر .. الخ . وبما ان النظام الداخلي الصارم للشركة لا يسمح بهكذا غوغائية ، ولابد من اجراء تحقيق وفق انظمة الشركة والذي سيضر حتماً بالشخصين امام الموظفين فيما لو صدرت بحقهما عقوبة ، ودّ المدير العام الأجنبي ان يُنهي الموضوع ودّياً ، فالتقى كل واحد منهما على حِده ، مهدئاً الخواطر وداعياً للجنوح للحل الودي ، وعند حديثه مع احدهما وكيف يجرؤ على التطاول على زميله باليد ، قال للمدير العام (( لقد شتمني وقال لي : انت كلب !؟ )) حينها أتت المفاجأة ، والحكمة على لسان المدير العام الأجنبي ، اكرر الأجنبي ، وقال بمنتهى الهدوء ، والرزانة ، والثقة ، والعقلانية ، وإحتراف الإدارة ، لكن بثقافة غير ثقافتنا المشوهه ، قال المدير الاجنبي باللغة الانجليزية : (( So what!? The DOG is a nice animal )) ، الجملة بسيطة لكنها تقتضي الترجمة لسياق المقال : ماذا يعني !؟ الكلب حيوان لطيف )) . ونجح المدير العام بحل الخلاف ودياً .

نعم ، الكلب حيوان اليف ، لطيف ، لكن الأهم انه شريف ، نظيف لا يَغدر ، والأهم انه وفيّ . الوفاء !؟ اين نحن منه بني البشر ، الذين يتقمص بعضنا غدر الحية الرقطاء !؟ يؤلمني إنكار الانسان لأجمل صفات هذا الحيوان ، والإنتقاص من قَدره وأجمل صفاته . هكذا نحن بني البشر ، نُحِبُ ، ونُمَجِّدَ من يُعادِينا ويقتلنا لو تمكّن منّا ، فنمتدح الانسان بوصفه أسداً ، والأسد استاذ الغدر ، والقتل بخسة دون ان يزأر ، ولو واتته فرصة لمزقنا إرباً . وكذلك الامتداح بوصف الانسان بالنمر او بالذئب ( ذيب ) ، الذي لا يختلف كثيراً عن الاسد . كما تعودنا ان ننعت الذي لا نحبه ، بالحمار ، وهو الحيوان الصبور ، الذي يتحمل كل ( رزالات ، وحماقات ، وغطرسة ، وعنف ) الانسان ، ولم يعترض ولم يحتج منذ ان سخّره الله لخدمتنا. نحن محترفون في نكران الجمائل .

أتمنى لو تنتشر ظاهرة اقتباس وتقمص صفات ( الكلبنة والحمرنه ) ، لتزداد الانسانية وفاءاً وصبراً وعطاءاً . ذَمُّ الكلب تحقير لصفة الوفاء ، الصفة الأنبل ، التي بدأ الانسان منها يتنصل .

وهذا يذكرني بالشاعر / علي بن الجهم ، عندما اراد مدح المتوكل وقال :
أنتَ كالكلبِ في حِفاظكَ لِلودِّ / وكالتَيسِ في ِقراعِ الخُطوبِ .
أنتَ كالدَلوِ لا عَدِمْناكَ دَلواً / من كِبار الدِلا كثير الذنوبِ .
فعرف المتوكل قوته ، وفصاحته ، ورقة مقصده ، وخشونة لفظه ، فأمر له ببيت على ضِفاف دجلة ، بعدها أنشد :
عُيون المَها بين الرصافةِ والجِسرِ / جَلَبّْنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري … الانسان ابن بيئته .

هذا هو الانسان مُدمر لكل الأكوان ، هَدم ، ودَمر ، وقتل ، ولوّث ، وأفنى ، وانقرض الكثير من النباتات والحيوانات والكائنات بسبب جوره .

اذا ما زال للوفاء قيمة عند الانسان ، هناك سؤال يفرض نفسه عليّ بالحاح : لماذا يحتقر الانسان اكثر حيوان إتصف بالوفاء !!؟؟ لماذا يحتقر الانسان الحيوان الذي يتصف بالوفاء اكثر منه !!؟؟ أليس هذا يندرج ضمن أعراض مرض الشوزيفرينيا !!؟؟ وعليه ، أليس الاردن الحبيب بحاجة الى اعادة النظر في مفاهيم المواطنة !؟ أليس من حقنا ان نُمجد الشرفاء الاوفياء !؟ هل آن الاوان لأن نبدأ حملة وطنية باقصاء وكشف وتهميش وإحتقار الفاسدين غير الأوفياء للوطن في مناسباتنا ، وان لا يتصدروا المجالس ، ويترأسوا الجاهات !؟ أما آن الأوان للفرز بين اللصوص والشرفاء !؟ ألم ندرك بعد ، ان الكلاب أشرف من الفاسدين ، الكلاب وفيّه ، والفاسدون ( حراميّه ) . وأختم ببيت من الشِعر للامام علي رضي الله عنه :-
ذَهَبَ الوفاء ذَهابَ أمسِ الذاهبِ / والناسُ بين مُخاتٍل وموارب ِ.

الاخبار العاجلة