صراحة نيوز – بقلم الدكتور إبراهيم بدران
لعل المشكلات الاقتصادية الاجتماعية, التي تسببت بها جائحة الكورونا قد تم تناولها بإسهاب من الباحثين و وسائط الإعلام، سواء من حيث اتساع مساحات الفقر وخاصة في الدول النامية، أو ارتفاع البطالة في جميع دول العالم، أو انكماش الاقتصادات الوطنية والدولية بنسب قد تصل 10 % الى 15 % قبل عودة الاعمال إلى طبيعتها. هذا إضافة إلى انهيار شركات كثيرة، وارتفاع تكاليف العناية الصحية، وتحوّل التعليم إلى التعليم الالكتروني وعن بعد، وانقطاع الطلبة عن المدارس والمعاهد والجامعات، وغير ذلك الكثير.
على ان هناك ايجابيات وقعت خلال هذه الفترة، ليس بسبب الكورونا ذاتها، ولكن بسبب الاجراءات الوقائية التي اتخذتها الدول لمنع انتشار الوباء. ويمكن الاشارة إلى بعض منها. أولاً انخفاض نسبة التلوث الناشئ عن الغازات الملوثة و في مقدمتها ثاني اكسيد الكربون المنبعث من منظومات الصناعة والنقل بأنواعها المختلفة، بما فيها السيارات الخاصة، و ذلك بمقدار 8 إلى 9 مليارات طن على مستوى العالم و 12 مليون طن على مستوى الاردن، و بكلفة اقتصادية تقترب من 500 مليون دينار، بافتراض التعطل لمدة 90 يوماً. وهذا ترك آثراً ايجابياً على البيئة في كل مكان. إن نصيب قطاع النقل في تلويث البيئة يصل إلى ما يزيد على 40 %. وهذا يعني ان تطوير قطاع النقل على المستوى الوطني ليصبح اقل استهلاكاً للطاقة من خلال انظمة النقل الجماعية وخاصة القطارات والوسائط الكهربائية سوف يترك اثراً ايجابياً في كل مكان. ثانياً: انخفاض تجارة المخدرات وبالتالي تعاطيها، نتيجة للقيود الصارمة على حركة الافراد ووسائط النقل والتي تمثل العمود الفقري لهذه التجارة المدمرة والتي يقدر حجمها على مستوى العالم 2200 مليار دولار يصل الاقطار العربية منها ما يقرب من 140 مليار دولار. وهذا يعني ان فترة الحجر تركت اثراً ايجابياً على إعاقة تجارة المخدرات تبلغ قيمتها على مستوى العالم 550 مليار دولار وعلى المستوى الوطني ما يقدر بأكثر من 150 مليون دينار. فهل يمكن الاستمرار في الاجراءات الصارمة فيما يتعلق بالمخدرات على المستوى الدولي والعربي والوطني؟ خاصة وان هناك منظمات دولية وعربية ووطنية معنية بهذا الموضوع الخطير المتزايد الانتشار بين الشباب. ثالثاً: انخفاض حدة الحروب والنزاعات المحلية نتيجة لانخفاض تجارة وتهريب الاسلحة وتزويدها للحركات الارهابية أو الانفصالية أو العصابات أو غيرها من قبل وسطاء ومنظمات ومؤسسات تتبع حكومات معينة. وأصبح الجميع مشغولا بمقاومة الجائحة. وهذا يفتح الباب للمؤسسات الدولية ومنظمات المجتمع المدني لتعمل من أجل السلام والقيادات السياسية وخاصة في المنطقة العربية أن تنهي حالة الصراع بالوصول إلى حلول وسط. رابعاً: بروز التعليم عن بعد أو التعليم الالكتروني كبديل عن التعليم التقليدي للظروف الطارئة ولفترات محدودة. وتفاوتت فعالية هذا البديل من بلد إلى آخر لأنه يصعب حتى الآن بواسطة التعليم عن بعد خلق حالة التفاعل التربوي وكافة النشاطات التي تصقل شخصية المتعلم المطلوبة في المدرسة والجامعة. وهنا وعلى المستوى الوطني، يستدعي الامر تطوير وتحسين مفردات التعليم الالكتروني سواء من جانب المعلمين أو البيئة التعليمية، أو التجهيزات ، إضافة إلى تأهيل وتمكين وتدريب الطلبة في وقت مبكر على التعليم عن بعد واعتبار إتقان متطلبات التعليم عن بعد جزء من المهارات التعلمية التي ينبغي للطالب التمكن منها. خامساً: ان جائحة الكورونا اظهرت للعالم أن العولمة لا تقع فقط من جانب واحد، وإنما هي طريق باتجاهين .صحيح ان الدولة الصناعية يمكن ان تنشر صادراتها في جميع انحاء العالم إلاّ انها معرضة لأن تجتاحها الأوبئة و الكوارث والتغيرات الطبيعية، إضافة إلى تدفق المهاجرين واللاجئين من مختلف دول العالم. بمعنى ان الكوارث البيئية والمرضية دخلت في فضاء العولمة، وهناك مصلحة دولية في تخفيف شدة الفوارق بين الدول، وفي الدولة الواحدة بين المناطق والمحافظات والألوية المختلفة. سادساً: ان جائحة الكورونا اضطرت الكثيرين للعمل عن بعد وفي منازلهم، كما عززت التجارة الالكترونية. وهذا على المدى البعيد له أثر ايجابي على البيئة والمناخ نظراً لأن الحركة بالسيارات التي تلازم النقل إلى مواقع العمل والتسوق لا يستهان بها وقد تصل إلى 30 % من الطاقة التي يستهلكها قطاع النقل في المدن. ومن هنا فإن التجارة الالكترونية في طريقها إلى الانتشار بسرعة كبيرة. وهذا يتطلب على المستوى الوطني، وضع ضوابط لهذه التجارة ،ومدوّنات سلوك تساعد البائع والمشتري على الالتزام بالمواصفات المطلوبة. كما تتطلب من غرف الصناعة والتجارة والحكومة العمل الجاد على تيسير عملية التطوير التكنولوجي والنوعي للصناعات المنزلية والتقليدية إضافة إلى تطوير اساليب التغليف والتوصيف والتسويق الالكتروني وما يرافق ذلك من ازدهار خدمات “التسليم”. سابعاً: ان الخسائر الكبيرة التي عانت منها بعض القطاعات وما تبع ذلك من بطالة دائمة أو مؤقتة ،تستدعي ان تأخذ الشركات والمؤسسات الرسمية و الأهلية في الحسبان احتمال التوقفات المفاجئة لمدة شهرين أو أكثر، وبالتالي قد يتطلب الأمر انشاء حساب خاص في كل شركة أو مؤسسة هو احتياطي الطوارئ وبنسبة 10 % من الارباح السنوية على غرار الاحتياطي الاختياري أو الاجباري السائد حالياً. وعلى مدى السنوات يكون لكل مؤسسة أو شركة سواء كانت كبيرة او صغيرة احتياطي كافٍ لمواجهة الطوارئ في حالة الأوبئة أو الكوارث الطبيعية بدلاً من الارتباك المالي الذي وقعت فيه معظم المؤسسات العاملة الاهلية والرسمية.
ومع ان احتمالات تكرار الكوارث الصحية أو البيئية أو السياسية الكبيرة على غرار الكورونا دائماً تكون ضئيلة ،إلا ان التداخل والترابط والاعتماد المتبادل على مستوى العالم جعل التأثيرات سريعة الانتقال وبالغة التأثير. وخلال العشرين سنة الماضية، كانت هناك 3 ازمات كبرى على مستوى العالم تمثلت بالإرهاب والأزمة المالية العام 2008 وجائحة الكورونا. وكان تأثيرها على العالم كبير جداً، وأكثر الدول تضرراً كانت المنطقة العربية. الأمر الذي يستدعي انشاء مركز وطني للكوارث اضافة إلى مراكز اقليمية ودولية لدراسة احتمالات الكوارث الكبيرة، وبالتالي تأهيل القطاعات الانتاجية والخدمية والمجتمعية والأمنية والتعليمية للتعامل مع مثل هذه الكوارث بأقل الأضرار وأفضل الاستعدادات. فالمستقبل أصبح أكثر تعقيداً وأشد حاجة إلى الاستعداد والاستقراء والعمل الاستباقي المنظم في وقت مبكر.
*وزير التربية والتعليم الأسبق