أخشى ما أخشاه أن تنتقل عدوى التكفير الديني لمجالنا السياسي، فتتحول السياسة إلى فتوى، ويتناوب السياسيون، على جبهتي الرسمي والمعارض، إصدار أحكامهم فيما بينهم على قاعدة “الوطنية”، يدخلون في ملتها من أرادوا، ويطردون منها من شاؤوا، وكأنهم الناطقون الحصريون الموقعون باسم الوطن، عندئذ سنجد بلدنا، بهمة هؤلاء(!) مقسوما لفسطاطين: أحدهما وطني كامل الدسم، والآخر مشكوك بوطنيته حتى يثبت العكس. صرف الأحكام السياسية التي يستدعيها الاختلاف بين من يتصدرون المشهد السياسي، يستند في الأصل إلى “الأداء” فقط، فالمسؤول الذي يخطئ باتخاذ القرار، أو المعارض الذي يتجاوز حدود النقد للإساءة والتجريح، يفترض أن يخضع للتقييم والمحاسبة، دون المساس بكرامته الشخصية أو صفته الوطنية، الحكم السياسي أو القانوني لا علاقة له إطلاقا بالتفتيش عن النوايا الوطنية، وأصحابه ليسوا مخولين بطرد أي أردني من الملة الوطنية، أو إدخاله فيها. أسوأ وصفة يمكن أن نصرفها لبلدنا هي وصفة التصنيف أو التقسيم على أي أساس، ديني أو وطني أو جغرافي، ليس فقط لأن تجربة غيرنا مع هذه الوصفات قاتلة ومفزعة، وإنما لأن مثل هذه القابلية أصبحت، للأسف، واردة لدينا وموجودة، وخاصة بالمجال السياسي الذي يفترض ألا يقع الفاعلون فيه بهذا “الفخ”، باعتبارهم المعنيين بتحصين المجتمع، وضبط حركته، وضمان استقراره. مع دوران عجلة التطبيع الرسمي مع إسرائيل، في مجالات الزراعة والمياه والطاقة وغيرها، ستطرح المعارضة السياسية (وربما طرحت فعلا) هكذا أحكام ضد المسؤولين الذين يشاركون أو يوقعون، ومع احتدام الجدل حول التعديلات الدستورية والمطالبة بالإصلاح والاحتجاج بالشارع، سيطرح المسؤولون الرسميون ومن يدافع عنهم (وربما طرحوا فعلا) هكذا أحكام ضد المعارضين والناشطين. مع بروز أحكام (اتهامات) التصنيف المتبادلة على قاعدة الوطنية التي أشرت لها سلفا، سنكون أمام مفاصلة خطيرة تفرز من الدولة والمجتمع أسوأ ما فيهما، لأن التقسيم على مستوى النخب سيستدعي بالضرورة اصطفافات اجتماعية قائمة على الهوية والديموغرافيا والدين، وسيطرح أسئلة عديدة، منها: من هو الأردني الأصيل والأردني البديل، ومن هو الوطني وغير الوطني، وهذه أسئلة مزدحمة بالرمزيات والأحداث التاريخية الملغومة. لا أتحدث، فقط، عن الطبقة السياسية التي خلطت بين السياسي والديني، وإنما عن طبقات أخرى وظفت الوطنية لأهداف سياسية، وقسمت الأردنيين وفق مقاييسها بين من هو مع الدولة ومن هو ضدها، وهذه الطبقات موجودة بالمؤسسات الرسمية، وفي أطر المعارضة بأشكالها المختلفة، ومن المفارقات أن معايير التوظيف والتعيين وتوزيع الحظوات والغنائم والولاءات، تخضع لهذه المسطرة، وبسببها تولدت داخل مجتمعنا “خزانات” كبيرة من الإحساس بالمظلومية والقهر، افتقدنا قيما عزيزة تأسست عليها الدولة في علاقتها مع الناس، كالعدالة والانتماء والأسرة الواحدة. أعرف تماما أننا ما زلنا نعاني من قلق الهوية، ولم نفلح بإطلاق مشروع وطني قادر على استيعاب مشتركاتنا، وتأطير تنوعاتنا، والاستثمار بطاقاتنا، وأعرف أيضا أن ثمة من يحاول أن يعبث بنواميسنا الوطنية، بقصد أو بدون قصد، لكن ما أريد أن أصل اليه هو أن نبتعد عن دوائر التصنيف وإصدار الأحكام والاتهامات على قائمة الوطنية، باختلاف مسمياتها، فكما أن الوطن ملك للأردنيين بدون استثناء، الوطنية أيضا صفة لهم وسمة من سماتهم، وشرف يعتزون به، ولا يقبلون أن ينزعها منهم أحد.