ايران تواصل المماطلة واللعب على أوتار الوقت، وتواصل التحدي، والولايات المتحدة الأمريكية لا تظهر الحزم الكافي، وتبدو غير جادة في التصدي للخطر النووي الايراني، وليس في حساباتها في الوقت الحاضر خوض صراع عسكري تدفع ثمنه منفردة، وإنما تريدها حربا اقتصادية، تصيد فيها أكثر من عصفور بحجر، حتى استطلاعات الرأي تفيد بأن نصف المجتمع الأمريكي ليسوا مع الحرب.
تدرك الولايات المتحدة أن صراعا عسكريا مع ايران من شأنه أن يكلفها التخلي عن لعبة المصالح، وخسارة الكثير من المال والنفوذ والأوراق الرابحة في المنطقة حتى وإن كانت واثقة من أنّ كفة الصراع في جانبها، فالصراع العسكري قد يلحق ضررا بحلفائها في المنطقة وإن شئت ما تعتبره محمياتها والذين هم في مرمى القوات الايرانية، ومن شأن الصراع العسكري أن يحرم الولايات المتحدة من سوق وافرة للسلاح في المنطقة.
يحدث هذا في حين يقف العرب أكثر المتضررين من برنامج ايران النووي في حيرة من الأمر وقد أربكهم ضبابية المشهد وغموضه، وفي حالة ترقب لما يجري من غير حول منهم ولا قوة، وينتظرون نهاية حدث أشبه ما يكون بمسرحية باتت الملامح العامة لفصولها مكشوفة، والطرف العربي هو الخاسر الأكبر فيها.
على مدى عقود مضت تعرضت الولايات المتحدة الأمريكية لسلسة من الاختبارات، وحرب الاستنزاف من قبل ايران، ومارست ايران أشد أنواع الاستفزاز ضدها، وكان الرد الأمريكي على كل هذه الاستفزازات خجولا، وأقل من مستوى الحدث، بالرغم من امتلاكها لأدوات الحسم، مما يجعلنا أمام مشهد مثير للاستغراب والاستفهام، وأمام حالة ظاهرية من الغموض في الأهداف والنوايا والدوافع والمواقف.
في نهاية السبعينات من القرن الماضي احتجزت ايران عددا من الامريكيين كرهائن، وقتل ثمانية جنود امريكان في سقوط مروحية اثناء عملية تحرير الرهائن، وفي بداية الثمانينات من القرن الماضي قامت بتدبير التفجيرات التي استهدفت المصالح الأمريكية في الكويت، وتم تفجير مبنى قوات المارينز الأمريكية في لبنان أسفر عن مقتل أكثر من 240 جندي أمريكي واضطرها ذلك لسحب قواتها من لبنان.
وفي منتصف الثمانينات حصلت فضيحة كونترا عندما عُقدت صفقة تشتري بموجبها ايران السلاح من امريكا مقابل اطلاق سراح الرهائن الغربيين المحتجزين في لبنان، وزرع الايرانيون الألغام في مضيق هرمز، واستخدموا قوارب هجومية لإعاقة حركة السفن والناقلان الحربية الأمريكية، وأدى ذلك لإغراق واحدة من أكبر الناقلات الأمريكية عام 87 بعد اصطدامها بلغم ايراني، هذا بالإضافة إلى تعرض حلفاء أمريكيا في المنطقة لهجمات شبه يومية من خلال أذرع ايران وميليشياتها، وهناك الكثير من الاستفزازات التي تحتاج إلى بحث مطوّل.
أسئلة كثيرة يمكن أن تكون مثارا للجدل في هذا الصدد، فما هو سر الجرأة العالية، والتنمر الكبير الذي بات السلوك المميز لإيران في المنطقة، ولماذا لم تتعدى الولايات المتحدة حد التذمر من سياساتها، ومن هو الطرف الخاسر مما يحدث، ومن هو الرابح الأكبر مما يجري، وهل باتت إيران تملك عقولا بشرية خارقة تمكنها من اجادة فن اللعب على أوتار السياسة أكثر من غيرها، أم أنها صناعة العدو في الذهنية الامريكية، تلك الصناعة التي تنعش الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الامريكي، وهو سر الحياة والبقاء بالنسبة لأمريكا.
بعد زوال خطر العدو اللدود للولايات المتحدة الأمريكية والمتمثل بالاتحاد السوفيتي والشيوعية، جاءت كذبة صناعة الإسلام كخطر قادم يهدد أمريكيا والعالم، يطلقون الكذبة ويصدقونها، ويبحثون عن آليات لتغذيتها حتى تصبح أمرا واقعا، ثم تبدأ عملية تسويقها والترويج لها، لهذا برز مصطلح الإرهاب، وظهرت معه التنظيمات الإرهابية التي تبنت الافكار المتطرفة كالقاعدة، وداعش، والنصرة وغيرها، وتحت ذريعة الخطر المتمثل بالتطرف الاسلامي تم احتلال أفغانستان، ومن ثم العراق، وتدمير سوريا.
وما أن ينتهي أو يضعف العدو المرعب والمخيف، حتى تبدأ صناعة عدو آخر، ولعل تهويل الخطر الايراني والمد الشيعي هو الخصم والعدو البديل والمفترض القادم لكن ليس لأمريكا والعالم في المقام الأول هذه المرة، وإنما للمنطقة العربية على وجه الخصوص، وهذا الذي يجري تسويقه على هذا الأساس، وربما حصر خطر هذا العدو بالمنطقة على وجه التحديد يجعل الفوائد عظيمة للولايات المتحدة الأمريكية خاصة وأن (البودي جارد) المعتمد والموثوق للدفاع عن المنطقة هو الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الذي يتقاضى أعلى الامتيازات والأجور مقابل عمله.
هل وقعت إيران في الفخ، والذي تم استدراجها اليه، ويتضح من مجريات الأمور أنها على الأغلب لن تنجو منه في الوقت القريب مهما حاولت القيام بأعمال تسعى من خلالها إلى تحسين صورتها الذهنية، ومهما نفذت من شروط امريكية، ومهما التزمت بالقانون الدولي، لأن الأولويات باتت متعلقة ومرهونة بهدف أمريكي جديد بالمقام الأول، وعالمي ثانيا، يتوافق مع نظريات صناعة الأعداء والخصوم في الفكر والذهنية الأمريكية ودوائر التخطيط فيها، ويلتقي مع أهداف إسرائيل الاستراتيجية في المنطقة.
والسؤال، لماذا يحتاج المرء إلى عدو أو خصم ظاهر في الوقت الذي يبحث فيه أو يدعي البحث عن السلم والسلام، ببساطة فإن وجود عدو بشكل دائم ومستمر يعني أن تكون يقظا ومتأهبا، ومستعدا، وتعمل على تطوير قدراتك والارتقاء بوسائلك، ويخلق لديك نوعا من التحدي يجنبك الانهيار، ويبعد الأنظار عن ما تعانيه من مشاكل داخلية، كما يقوي اللحمة بين أفراد المجتمع لمواجهة العدو المصطنع، وإليه أي للعدو المصطنع ممكن أن تعزو معاناتك وألَمك، وتجعله هدفا تنتقم منه في كل مرة تتعرض فيها لخيبات الأمل، كما أن وجود عدو مستمر يجعل الآخرين في حالة دائمة للبحث عن مضلة آمنة تحميهم مهما كلف ذلك من ثمن.
السؤال المحيّر، ماذا لو استمرت إيران في تعنتها، وها هي مفاوضات إحياء الاتفاق النووي تقترب بحسب التصريحات من الوصول إلى طريق مسدود، وأرى انها لن تصل الى طريق مسدود، وسوف تتم بأي شكل من الإشكال، وفي حال تعثر المفاوضات وهو أمر مستبعد وأقدمت ايران على إغلاق مضيق هرمز في وجه صادرات النفط، أو أغلقت مضيق باب المندب، واستمرت في تحريك اوتاد الشر في المنطقة.
يبدو واضحا أن إيران تمتلك أوراق ضغط عديدة، والوجود الأمريكي في المنطقة، وحلفائها ستصبح أهدافا مشروعة لإيران في حال التضييق عليها، أو في حال اندلاع حرب رغما عن ارادة أطرافها، ولن تسلم إسرائيل من مخاطر محتملة كبيرة قد تهدد أمنها واستقرارها، لذا بات الوقت في غير صالح أمريكا، وأنّ على الولايات المتحدة إن لم يكن قد فات الأوان تدارك أخطاء الماضي حتى لا تكون هي من نصب الفخ ووقع فيه.
ويبقى السؤال الأهم والاخطر، هل بالغت الولايات المتحدة في صناعة العدو وإطلاق العنان له، وغض الطرف عنه، وهل تجاوزت حدود الأهداف المرجوة من صناعته لدرجة أنه بات خارج السيطرة، ام أن الفرصة مازالت سانحة لوضع الأمور في نصابها الصحيح؟