جورج فلويد شعار العصيان المدني الأمريكي

4 يونيو 2020
جورج فلويد شعار العصيان المدني الأمريكي

صراحة نيوز – بقلم الدكتور حسين عمر توقه
باحث في الدراسات الإستراتيجية والأمن القومي

المقدمة :
إن هذا البحث يتعلق بموضوع العصيان المدني ومدلولاته وبما يدور الآن في الولايات المتحدة نتيجة قيام الشرطة الأمريكية في مينيابولس بقتل المواطن الأمريكي “جورج فلويد” والنتائج المترتبة على هذا الحادث وانعكاساته على الإدارة الأمريكية في الداخل والخارج .
تكاد تُجمع كل المراكز الإستراتيجية في العالم أن الولايات المتحدة بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي هي القوة الأعظم أو القطب الأوحد في العالم وأن الركيزة الأولى لهذه القوة تعتمد إعتمادا كليا على الترسانة النووية والتقدم التكنولوجي في مجالات التسلح وأن الركيزة الثانية تعتمد على القوة الإقتصادية للولايات المتحدة لكون الدولار الأمريكي العملة الأكثر إستقرارا وتداولا في أسواق البورصة العالمية . وتعود قوة الدولار الأمريكي إلى أن كل دولار كان يعتمد في قوته على تغطية قيمته مقابل وجود أكبر إحتياط للذهب في فورت نوكس ساهمت به الكثير من الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الأطلسي بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 إلا أن هذا المخزون قد أخذ يتلاشى خلال العقود الثلاثة الأخيرة الماضية ولم يبق منه شيء. وباتت قوة الدولار تعتمد إعتمادا كليا على كونه العملة التي يتم التعامل بها في عقد الصفقات التجارية في العالم ومن جملة هذه الصفقات النفط والغاز في العالم وبالذات النفط والغاز العربيين بالإضافة إلى صفقات السلاح في كل بقاع المعمورة .
وفي غمرة ما تتعرض له الولايات المتحدة هذه الأيام من عواصف الأولى منها جائحة الكورونا فيروس والثانية عاصفة مقتل جورج فلويد . فلقد طفت على سطح الأحداث أولويات جديدة تؤثر على الأمن القومي للولايات المتحدة.

لقد أجمعت الدراسات والبحوث الإستراتيجية على أن أكبر تهديد للأمن القومي للولايات المتحدة لا يأتي من الخارج وإنما يكمن في البنية التحتية للعلاقات الإجتماعية والتمييز العنصري وبالذات ضد السكان من اللون الأسود أو كما يُحب الأمريكيون وصفهم من ذوي الأصول الإفريقية حيث شهد التاريخ الحديث للولايات المتحدة بعض الحركات المناوئة للتمييز العنصري . وقد شهد هذا التاريخ سلسلة من هذه الأحداث التي أثرت على ضرورة تغيير أنماط من السلوك البشري والحد من التمييز العنصري .

التسلسل الزمني التاريخي لأحداث التمييز العنصري:
في عام 1917 وقعت أحداث مدينة سانت لويس التي أدت إلى وفاة ما بين 40 إلى 200 شخص من الأمريكيين السود .

وتلتها في عام 1923 ما تعارف على تسميته بمذبحة روزوود في ولاية فلوريدا حيث قام حشد من الرجال البيض بإعدام شخص أسود بتهمة التحرش بإمراة بيضاء كما قام المئات من البيض بمهاجمة وحرق بيوت السود داخل بلدة روزوود وتم قتل ستة من االسود وتم طردهم من البلدة .

وفي عام 1955 قامت حركة الحقوق المدنية الأمريكية التي قادها مارتن لوثر كنج ضد التمييز العنصري بين السود والبيض والتي بدأت في مونتجمري بولاية ألاباما حين رفضت روزا باركس السوداء التخلي عن مقعدها في الحافلة لراكب أبيض .

وتبعتها أحداث فيلادلفيا عام 1964 حيث أصيب 341 شخص وتم إلقاء القبض على 774 شخصا بالإضافةإلى تدمير 225 محل تجاري بعد مقتل سيدة سوداء خلال ثلاثة أيام .

كما شهد حي هارليم في مدينة نيويورك بتاريخ 16/7/1964 مقتل شاب أسود لا يتجاوز عمره 15 عاما على يد ملازم في الشرطة بواسطة ثلاث طلقات نارية أمام أصدقائه مما أدى إلى قيام 4000 شخص من سكان نيويورك بهجمات على مراكز الشرطة المختلفة بالإضافة إلى القيام بعمليات تخريب وسلب ونهب للمتاجر لمدة ستة أيام وتبعتها أعمال شغب في كل من مدينة فيلادلفيا وبنسلفانيا وروشيستر وشيكاغو .

وفي عام 1992 شهدت مدينة لوس أنجيلوس سلسلة من أحداث العنف والشغب والحرائق استمرت لمدة ستة أيام بعد أن صدر قرار المحكمة بتبرئة رجال الأمن الأربعة من شرطة لوس أنجيلوس الذين قاموا بالإعتداء بالقوة المفرطة على شخص أسود يدعى رودني كنج في أعقاب مطاردة بالسيارات وقد تم تصوير هذا الإعتداء الوحشي ونشره على شبكات الإعلام المختلفة. وبلغت حصيلة أعمال الشغب 53 قتيلا وأكثر من 2000 جريح .

في عام 2001 شهدت مدينة سينسناتي بولاية أوهايو أعمال شغب بعد إطلاق النار على شاب أسود يبلغ من العمر 19 عاما من قبل أحد رجال الشرطة مما تسبب في مقتل الشاب حيث استمرت أعمال الشغب لمدة أربعة أيام .

بتاريخ 25/5/2020 في أحد أحياء مدينة منيابولس في ولاية مينيسوتا توفي مواطن أمريكي من أصل إفريقي اسمه “جورج فلويد” نتيجة تثبيته على الأرض إبان عملية إعتقاله من قبل أربعة رجال شرطة حيث قام أحدهم ” ديريك تشوفين ” بالضغط على عنق فلويد بواسطة ركبته لمنعه من الحركة أثناء الإعتقال لأكثر من ثمان دقائق وهو يصرخ ” لا أستطيع التنفس ” ولقد تم تسجيل الحادثة في العديد من مقاطع فيديو الهواتف المحمولة التي تم تداولها على نطاق واسع على منصات التواصل الإجتماعي وبثته وسائل الإعلام المحلية والعالمية . ولقد انطلقت المظاهرات والإحتجاجات في منطقة منيابولس في اليوم التالي حيث كانت مظاهرات سلمية ما لبثت أن تحولت إلى أعمال شغب شهدت حرق اعداد من المتاجر وتحطيم نوافذ مركز الشرطة . وخلال خمسة أيام أنتشرت المظاهرات والتي ضمت الأبيض والأسود على حد سواء على شكل إحتجاجات ومظاهرات ومقاومة مدنية ونهب وإعتقالات وإعتداءات وإحراق الممتلكات في الولايات الأمريكية التالية مينيسوتا ألاسكا ألاباما كولورادو أوهايو فلوريدا أيوا ديلاوير كاليفورنيا كونيتيكت هونولولو هاواي أركنساس نيفادا نيوجيرسي ومدينة واشنطن العاصمة أريزونا كارولاينا الشمالية ومما لا شك فيه أنه أثناء نشر هذا المقال سوف تصل هذه المظاهرات كل الولايات الأمريكية . كما أن المدعي العام لولاية مينيسوتا كيث أليسون قد أعلن بأنه سيشدد الإتهام بحق الشرطي ديريك تشوفين في مقتل جورج فلويد إلى جريمة من الدرجة الثانية بالإضافة إلى توجيه إتهامات بحق رجال الشرطة الثلاثة الآخرين أي أن الرأي العام في الولايات المتحدة سيبقى في حالة إنتظار ومتابعة لمجريات محاكمة القرن الواحد والعشرين طوال الأشهر القادمة ولا يعلم أبعاد نتائجها غير الله سبحانه وتعالى .
التساؤل المطروح الآن هل يمكن وصف هذه الأحداث بأنها عصيان مدني وهل فشلت إدارة الرئيس الأمريكي في معالجة هذه الحادثة وما هي أبعادها ونتائجها على صناع القرار وما هي آثار هذه الحادثة على دول العالم وتعاملهم مع الإدارة الأمريكية وبالذات الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الأطلسي

أما فيما يتعلق بجائحة الكورونا فيروس فإن أنظار العالم تتجه نحو النتائج الإقتصادية التي ترتبت على هذه الجائحة والسؤال الذي يشغل بال كل المخططين الإستراتيجيين والإقتصاديين في العالم هو ما بعد هذه الجائحة وتشير النتائج الأولية إلى دخول الصين حيز التنافس الإقتصادي بقوة على مستوى العالم فالصين لم تعرض نفسها كقوة عسكرية عظمى بل عمدت إلى التستر بأنها دولة من دول العالم الثالث رغم ترسانتها النووية وأسلحتها المتطورة ولقد جاء العرض العسكري الصيني في العيد الوطني لعام 2019 مفاجأة كبيرة لكل الخبراء العسكريين وإلى مراكز البحث فقد أثبتت الصين من خلالها أنها دولة عسكرية متقدمة تكنولوجيا في مصاف الدول العظمى . إن ما يهمنا هنا التأكيد أنه ومنذ تشكيل تحالف بريكس ( البرازيل الهند الصين روسيا جنوب إفريقيا ) فلقد أثبتت الصين أنها دولة صناعية تجارية متقدمة وقد استطاعت خلال عقدين من الزمان أن تغزو منتجاتها كل أسواق العالم وبالذالت الولايات المتحدة . كما أن الصين قد ضمنت الحصول على إحتياجاتها من النفط والغاز عن طريق انابيب النفط والغاز العملاقة الممتدة من سيبيريا إلى الصين مباشرة .
كما أنها أظهرت الجانب الإنساني في تعاملها مع بعض الدول الأوروبية بعضهم أعضاء في حلف الأطلسي وذلك بالعمل على تزويدهم بالمستلزمات والكوادر الطبية الصينية من أجل التغلب على أزمة الكورونا فيروس . بينما تمثل الموقف الأمريكي بنوع من القرصنة والكثير من الأنانية في الإستئثار بهذه المستلزمات واللجوء في بعض الأحيان إلى إتباع القرصنة الجوية . إن كل الناس ترقب وتنتظر ما ستسفر عنه الأوضاع الإقتصادية وما سينجم عنه ذلك السباق المحموم والمحتوم بين الولايات المتحدة وبين الصين .

العصيان المدني :
في الدستور الفرنسي المادة 35 في عام 1793 تنص ” أنه عندما تنتهك الحكومة حقوق الشعب تصبح الثورة بالنسبة للشعب بكل شرائحه أكثر الحقوق قدسية وأكثر الواجبات حتمية “
العصيان المدني هو أحد الطرق التي ثار بها الناس على القوانين الظالمة غير العادلة وهو أحد الوسائل السلمية المكفولة دستوريا والمتاحة للمواطنين من أجل المطالبة بحق من الحقوق المهدورة . وقد استخدم في حركات مقاومة سلمية عديدة وموثقة ففي الهند تمثل العصيان المدني في حملات المهاتما غاندي من أجل العدالة الإجتماعية والإستقلال عن الإمبراطورية البريطانية ولقد أوضح غاندي بشكل لا يقبل الشك أن العصيان يقوض من سلطة الدولة إلى حد بعيد إذ يعلن ” لو أن الرجل يشعر بأنه ليس من الرجولة أن يطيع القوانين الجائرة فلن يستطيع أي طاغية أن يستعبده “.
وفي جنوب إفريقيا تمثل العصيان المدني في مقاومة التمييز والفصل العنصري حين دعا كل من الأسقف ديزموند توتو وستيف بيكو إلى العصيان المدني وتمثلت النتيجة في وقائع مشهورة مثل المطر البنفسجي عام 1989 ومسيرة كيب تاون التي أنهت الفصل العنصري .
ولقد استخدم الثوار العصيان المدني فيما عرف بالثورات الملونة والتي تأثرت بأفكار جين شارب والتي أدت إلى خلع سلوفيدان ميلوسوفتش في صربيا والثورة الوردية في جورجيا التي أدت إلى خلع إدوارد شفرنادزة والثورة البنفسجية في تشيكوسولفاكيا والثورة البرتقالية في أوكرانيا .
ويجمع الكثير من الباحثين على أن أكبر الأمثلة لتطبيقات العصيان المدني في العالم العربي وأوسعها نطاقا تمثلت في ثورة 1919 التي ابتدأت في اليوم التالي لإعتقال الزعيم الوطني سعد زغلول والوفد المرافق له بتاريخ 9/3/1919 حيث أشعل طلبة الجامعة في القاهرة شرارة التظاهرات وفي غضون يومين امتد نطاق الإحتجاجات ليشمل جميع الطلبة بما فيهم طلبة الأزهر وبعد أيام قليلة كانت الثورة قد اندلعت في جميع أنحاء مصر من مدن وقرى حيث قام عمال الترام بإضراب تلاه إضراب عمال السكك الحديدية كما أضرب سائقو التاكسي وعمال البريد والكهرباء والجمارك وتلا ذلك إضراب عمال المطابع والورش الحكومية ومصلحة الجمارك بالإسكندرية . وبالرغم من أن الكثير من مؤرخي التاريخ يفضلون مصطلح الثورة بدلا من العصيان نظرا لوقوع مئات من الشهداء من الشعب المصري في هذه الثورة ضد الإحتلال البريطاني.
وبالمقابل فإن الكثير من المؤرخين رفضوا اعتبار الإضراب العام في فلسطين بأنه أحد الأمثلة الحية للعصيان المدني حيث تم الإعلان بتاريخ 17/4/1936 عن الإضراب العام في فلسطين احتجاجا على السياسات البريطانية الموالية للصهيونية . وبقيت المحاصيل الزراعية في القرى الفلسطينية وامتنع العمال الفلسطينيون عن التوجه إلى حيفا وتوقف العمل في الميناء وامتنع الطلاب من التوجه إلى المدارس وقاموا بالمظاهرات والمسيرات وهتفوا ضد الإنجليز وضد وعد بلفور وبتاريخ 8/5/1936 وتحت تزايد الضغط الشعبي دعا الحاج أمين الحسيني إلى عقد مؤتمر قومي لكل اللجان القومية وطالب هذا المؤتمر تحت شعار ” لا ضرائب بلا تمثيل ” بالعصيان المدني وتنظيم إضراب عام احتجاجا على السياسات البريطانية الظالمة تجاه الشعب الفلسطيني والممالئة للصهيونية ولليهود .
وقد استمر الإضراب العام لمدة ستة أشهر ليصبح بذلك أطول إضراب ضد الإستعمار الغربي عرفته حركات التحرر الوطنية مما أدى إلى إيقاف النشاط التجاري والإقتصادي في القطاع الفلسطيني وقفا تاما . ويعتبر هذا العصيان المدني الفلسطيني حجر الزاوية لثورة فلسطينية عارمة امتدت حتى صيف 1939 استشهد خلالها 1200 شهيد فلطيني وفي مقدمتهم شيخ الشهداء فرحان السعدي الذي قام الإنجليز بإعدامه وهو صائم في شهر رمضان الكريم .
تعريف العصيان المدني :
إن العصيان المدني يعتبر ضمانا أخلاقيا إنسانيا وقانونيا للحريات العامة لا يخضع للسلطة القضائية ضمانا يمارسه المواطنون أنفسهم للحفاظ على حقوقهم الطبيعية والدائمة وهذه الحقوق هي الحق في الحرية والحق في التملك والحق في الأمان والحق في مقاومة القمع
إن العصيان المدني هو نشاط شعبي يعتمد أساسا على مبدأ اللاعنف وكلمة مدني صفة تتصل بالمواطن ولهذا فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أن العصيان المدني يعني عصيان المدنيين ولكن في حركات اللاعنف فإن كلمة ” مدني ” تعني عكس ما تعنيه كلمة عنف وهذا معناه أن المشاركين في أي نشاط للعصيان المدني إنما يتصرفون بشكل سلمي متحضر بعيد كل البعد عن كل مظاهر العنف والإيذاء النفسي والجسدي .
ولا بد من الإعتراف بأنه لا يوجد هناك إجماع حول تعريف العصيان المدني لا سيما وأن معظم التعاريف الدارجة قد ارتبطت بتاريخ معين أو بحادثة تاريخية معينة وعليه فإننا سنحاول التطرق في هذه العجالة إلى بعض الحقب الزمنية وبعض المفكرين الذين ساهموا بكتاباتهم بإضفاء بعض المعاني على مفهوم العصيان المدني .
في بحث للمحامي جميل عودة بعنوان ” العصيان المدني : الأسلوب الأمثل للمعارضة والدفاع عن الحقوق ” يعرف العصيان المدني بقوله هو ببساطة أن تعصي القانون وتطيعه في آن واحد فهو أرقى صور التمرد والمقاومة والرفض والإحتجاج . ولكن بالشكل السلمي المتحضر . له صور متعددة مثل أن يخرج المعارضون بشكل جماعي وفي أوقات محددة لإجبار السلطة الحاكمة على الإنصياع لمطالب المحتجين الهادئين مثل رفض الموظفين الذهاب إلى دوائر الدولة والمدارس والجامعات والمصانع والمعاهد مع إغلاق كل الأسواق والمحلات التجارية والأفران ومثل اقناع سائقي السيارات العامة ومحطات الوقود وسيارات الأجرة داخل المدن وخارجها . ومثل أن تخرج الجماعات وهم يرتدون ملابس موحدة إما سوداء أو بيضاء أو أي لون موحد وبكل هدؤ لا شعارات ولا صراخ ولا نداءات معادية ولكن عصيان بهدؤ كالجلوس في الشوارع الرئيسية أو الميادين الكبرى والجلوس في وسطها .
ويتوجب على الممارس للعصيان المدني أن يكون هادئا مالكا لزمام نفسه حتى يتحقق هدفه . فعندما يمسك به رجال الشرطة والأمن لا بد وأن يكون مطيعا لهم تماما يبتسم في وجوههم حتى لو أهانوه وشتموه . وفي العصيان المدني يعاهد ممارس اللاعنف نفسه وضميره ووطنه أن يتحمل المسؤولية بمفرده وكأنه هو وحده في الساحة ويحاول قدر جهده أن يقنع الآخرين بعدالة قضيته .
في عام 1849 تم نشر بحث بعنوان ” مقاومة الحكومة المدنية ” للأمريكي هنري ديفيد ثورو في أعقاب رفضه دفع ضريبة مخصصة لتمويل الحرب ضد المكسيك وعرف العصيان المدني بأنه رفض الخضوع لقانون أو لائحة أو تنظيم أو سلطة تعد في عين من ينتقدونها ظالمة . ويعتقد ثورو أن المقاومة يجب أن توجه خطابها إلى المواطنين لأنهم هم الذين يشكلون ويصنعون الجزء الأهم في جماعة العصيان كما يرى أن أكبر الداعمين للأنظمة الجائرة والذين يمثلون أكبر المعوقات أمام حركة المقاومة هم أؤلئك الذين يعترضون في البداية ثم يذعنون ويقدمون للنظام الولاء والدعم في النهاية , وينبغي ألا تنشغل حركة العصيان المدني بتوجيه خطابها إلى الحاكم أو النظام وتغفل عن اختيار خطاب مناسب للجماهير يدعوهم للمشاركة في العصيان ويحرضهم عليه ويربط مستقبلهم بنجاحه طالما أنها قررت المقاومة وليس الإحتجاج .
وفي تعريف للفيلسوف الأمريكي الليبرالي أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة هارفارد جون راولز أنه يمكن تعريف العصيان المدني على أنه عمل عام سلمي يتم بوعي كامل ولكنه عمل سياسي يتعارض مع القانون ويطبق في أغلب الأحوال لإحداث تغيير في القانون أو في سياسة الحكومة وبإتخاذ هذا المسلك يخاطب العصيان المدني حس العدالة لدى غالبية المجتمع ويصرح وفقا لرأي وتفكير ناضج بأن مبادىء التعاون الإجتماعي بين أفراد يتمتعون بالحرية والمساواة في الحقوق لا يتم حاليا احترامها من قبل النظام الحاكم .
وفي كتابه ” نظرية العدالة ” يقول المؤلف جون راولز ليس من الصعب أن تبرر حالة العصيان المدني في نظام غير عادل لا يتبع رأي الأغلبية . لذلك تستفيد حركات العصيان المدني من الظلم والتسلط وتوظفها في عملية التحريض وكلما ازداد الظلم كلما كان ذلك في صالح حركات العصيان . وكلما ازدادت الجرائم المعلنة للنظام كلما كان ذلك سبيلاً إلى اجتذاب الجماهير لذلك تستفيد حركات العصيان من أخطاء النظام وتوظفها بشكل دقيق لجذب المزيد من الأحرار لتسقط شرعيته وهيبته .
في كتاب ” طريق المقاومة ” يعرف المؤلف بير هيرنجرين العصيان المدني بأنه نشاط شعبي متحضر يعتمد أساسا مبدأ اللاعنف . وهو عبارة عن تحد لأمر ما أو لقرار ما حتى ولو كان غير مقيد بالقانون ويهدف نشاط العصيان إلى المحافظة على أو تغيير ظاهرة معينة في المجتمع بحيث تكون النتائج أو التبعات الشخصية جزء مهم من العصيان ويجب الإنتباه إلى أن العصيان المدني تقوم أنشطته على التحدي فلا تقيده قوانين النظام أو قراراته وإن كان أحيانا يتم عبر القوانين ومن ثم لا يستطيع النظام أن يفرض على حركة العصيان نشاطا بعينه أو يمنعها من نشاط أو يفرض عليها ميدانا بعينه .
في كتاب ” سياسة الحراك السلمي ” لمؤلفه جين شارب أستاذ العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس في دارتموند والمعروف بإسم عراب الثورات الملونة يقول إن السلطة ليست أحادية ثابتة أي أنها ليست أمرا لا يمكن انتزاعه من أصحاب السلطة ولكنه يرى أن السلطة السياسية أي سلطة الدولة بغض النظر عن طبيعة تنظيمها هي نابعة في المقام الأول من المواطنين فيها وهو يرى أن أي قاعدة للسلطة إنما هي قائمة على طاعة المواطنين لأوامر الحاكم أو الساسة فإن امتنع المواطنون عن الطاعة ففي هذه الحالة يفقد الحاكم سلطته .
وفي كتابه ” من الدكتاتورية إلى الديمقراطية ” يذكر أن هناك العديد من الشعوب التي تعيش تحت القمع المحلي أو الأجنبي منذ عشرات بل مئات السنين وغالبا ما يكون الخنوع إلى رموز السلطة والحكام دون مساءلة قد غرس في الذهن وفي أكثر الحالات تطرفا تكون مؤسسات المجتمع الإجتماعية والسياسية والإقتصادية وحتى الدينية قد أُضعفت عمدا أو حُولت إلى مؤسسات تابعة أو قد استُبدلت بمؤسسات صارمة تُستخدم من قبل الدولة أو الحزب الحاكم للسيطرة على المجتمع ويكون المواطنون قد شُتتوا لدرجة أنهم أصبحوا كتلة من الأفراد أو المعزولين الذين لا يستطيعون العمل معا لنيل الحرية .
وفي موقع آخر من الكتاب يقول .. تهدف ممارسات الأنظمة الديكتاتورية إلى إجبار القوى الديمقراطية على التخلي عن النضال السياسي واستخدام العنف وبالتالي تجد هذه الأنظمة مبررا لإستخدام القوة ودحر المقاومة الديمقراطية بسهولة .

الخاتمة :
في نهاية هذا البحث لا بد من إيراد بعض التوصيات للمحامي جميل عودة حول المبادىء التي يحتاجها العصيان المدني كي يتحول إلى حركة حقوقية احتجاجية شعبية ناجحة
اعتبار العصيان المدني حق طبيعي من حقوق الشعب لا يمكن التنازل عنه بأي صورة من الصور
اعتبار العصيان المدني وسيلة حضارية من وسائل التحول السياسي والمعارضة في البلاد العربية والإسلامية
ضرورة تعميم العصيان المدني عبر نشر ثقافة اللاعنف وتنميط أدواتها وأساليبها عبر تحويلها إلى قيم ثقافية راسخة في المجتمع
ضرورة توعية المواطن بأهمية العصيان المدني كوسيلة من وسائل المطالبة بحقوقه المشروعة وممارسة المعارضة السلمية وإخراجه من دائرة اللامبالاة والخوف وعدم تحمل المسؤولية
ضرورة قيام مؤسسات المجتمع المدني بتدريس أسلوب العصيان المدني وتعميمه على كافة طبقات المجتمع مما قد يحول الإحتقانات الداخلية والنفسية والمظالم وافتقار للعدالة الإجتماعية إلى قوة إيجابية للبحث عن حلول عادلة بعيدة عن الوسائل التخريبية العنيفة
ضرورة تفهم السلطات العربية والإسلامية لأهداف العصيان المدني وأخذها بعين الإعتبار والتأكيد على تحقيقها لأنه يضمن مصالح البلاد حيث يتم احتواء التخريب والعنف والفوضى الناجمة عن الإحتقانات الغوغائية .
ضرورة تطوير أدوات العصيان المدني واستحداث أساليب جديدة لأدائه على وجهه الصحيح
أن يجعل المجتمع المدني العربي والإسلامي العصيان المدني الأسلوب الأمثل في ممارسة المعارضة مع ضرورة وجود مواثيق بين الدول الإسلامية تمنع ضرب وقمع التجمعات السلمية
الإستفادة من الثورة التكنولوجية الجديدة المتمثلة بالإنترنت ووسائل الإتصال المتقدمة من أجل تعميم أساليب العصيان المدني ودعم الشعوب المقهورة عبر نشر قضاياها وأهدافها
وأخيرا نجد أن اللاعنف هو فلسفة حياة قادرة على تحريك قوة العقل وطاقة المعرفة وبالتالي القضاء على فوضوية الجهل والأمية الموسومة بالعنف والإنفعال والحماس واللعب بالأهواء والعواطف فالعنف لا يولد غير العنف
وبكل إختصار فالعصيان المدني هو حركة إنسانية واعية تنبع من الخيارات الذاتية نحو بناء مجتمع ديمقراطي تعددي قائم على حقوق المواطنة والمشاركة والعدالة .

الاخبار العاجلة