صراحة نيوز – بقل الدكتور احمد خلف مساعده
الأمين العام الأسبق للاتحاد من اجل المتوسط، ووزير اردني سابق والسفير السابق لدى الاتحاد الاوروبي، بلجيكا وحلف شمال الأطلسي
النظام العالمي بشقيه السياسي والاقتصادي كما نشأ وتكون بعد الحربين العالميتين بما في ذلك مؤسساته وأدواته يوشك على استنفاذ غاياته. بدورها المنظمات الإقليمية واتحادات التعاون الإقليمي والتي كانت نتاج النظام العالمي المذكور تلفظ هي الاخرى انفاسها الاخيرة. المنظمات الإقليمية التي لم تحقق ما يذكر لشعوب الدول المنضوية تحتها سيكون موعد طي صفحتها اسرع من مثيلاتها التي نجحت خلال العقود الماضية بخلق فضاءات تشاركية فاعلة لشعوبها.
لم نكن بحاجة لوصول جائحة كورونا لتذكيرنا بهذه الحقيقة التي يعيشها المجتمع الدولي، مع ان كورونا كَشَفَ المستور على صعيد التعاون الصحي الدولي وبَيَّنَ هشاشة منظماته وأنانية الدول. فبوادر الفردية والاهتمام بالذات بدا واضحًا في السنوات العشر الماضية من خلال الخطاب اليميني المتطرف والشعبوي الى حد كبير والمنغلق على نفسه في عديد دول العالم، وهو ذات الخطاب الذي اوصل الى قيادة دول كبرى زعامات تدين بذات الأيديولوجيا.
في هذا السياق ومن منظور إقليمي، فإن جامعة الدول العربية إسْتَنْفَذَتْ غاياتها بدون تحقيق اي عمل عربي تكاملي حقيقي يذكر لصالح الشعب العربي الواحد سواء على الصعيد السياسي او الاقتصادي او الاجتماعي. تخرج هذه الكلمات ممزوجة بالألم القومي الوحدوي والشكر لأصدقاء كُثْرٌ في تلك المنظمة عرفنا نواياهم الحسنة وقلة حيلتهم.
ومن الواضح ان عملية السلام في المنطقة بحاجة الى مراجعة جذرية في ضوء التطورات التي تجري سواء داخل اسرائيل او المنطقة او الموقف الامريكي وحالة الفراغ الدولي خاصة لجهة دور الاتحاد الاوروبي المنهك أصلا بمتاعبه الداخلية، مراجعة ٌتدرأُ الأخطارَ الوجودية المحدقة بدول المنطقة. فمن لا يزال متمسكا بذات الوسائل والمواثيق التي نمت على خاصرة العملية السلمية في الحقبة الماضية إنما مَثَلُهُ كقول الإمام الشافعي “ومَنْ نَزَلَتْ بِسَاحَتِهِ المَنَايَا فَلا أَرْضٌ تَقِيِهِ وَلا سَمَاءُ”.
ولما كان العالم، وخاصة الغربي فيه، يتجه نحو مزيد من الفرقة وإعادة انتاج نظام عالمي جديد نتيجة حرب اقتصادية لاأخلاقية بدت تلوح بوادرها في الأفق سَتُفَاقِمُ من سياسات الانغلاق والعزلة والأنانية ما يشكل بالنتيجة تهديدا وجوديا للدول الصغيرة التي بنت سياساتها في الحقبة الماضية على فلسفة الحليف الكبير الواحد، واذا كنا بصدد المساهمة في تفكيك وإعادة انتاج نظام العولمة حسبما نَبَّهَ اليه جلالة ملك الاردن عبدالله الثاني في مقال نُشِرَ مؤخرا، ولما كان فضاؤنا الإقليمي منهكًا بالفرقة والحروب والدمار نتج عنه حالة فراغ جيوسياسي، ولما كانت ازمة النفط ستفاقم مشاكل الدول المصدرة، فإن من تحت الركام يخرج الحل ومن وحي الفراغ ينبت الامل.
لذلك دقت ساعة اغتنام الفرصة لاجل تغيير الواقع الإقليمي. لكن ما هو شكل المشروع الذي نريد؟
انه مشروعٌ يقود الى منظومة إقليمية لا تستند الى عرق او دين او لغة وانما الى تشارك المصالح الإقليمية والتي ينتج عنه فضاءٌ إقليميٌ ووعاءٌ انساني يتسع ليحتضن تنوع شعوب المنطقة. انه مشروعٌ إقليمي للمنافع يفتح ويوسع أسواقًا اقتصادية أرحب للمواطنين، مشروعٌ يَصْهَر المجتمعات ويفتح الحدود ويسهل حركة الناس ما يمنح وفرةً وتنوع فرصٍ للعمالة. مشروعٌ يقود بحتميته الى إقامة مشاريع كبرى مشتركة عابرة للحدود في النقل والطاقة والصناعة. مشروعٌ لا يؤثر على الكيانات السياسية لكل قطر منضوي تحته لا بل على العكس يحميها من الجوائح العالمية سواء الطبيعية او السياسية. وان كان الامر كذلك، فإن جوهر ذلك النمط التشاركي الإقليمي يقتضي صياغة ثوابت جديدة بين كافة مكونات المجتمع تستند الى أسس الديموقراطية الحقة والتعددية السياسية وحرية الرأي والمعتقد والعدالة الاجتماعية ومنظومة الإنتاج والفكر المستنير ودون تهميش او إقصاء لاي مكون مجتمعي. انه مشروعٌ يقيمُ وزنًا كبيرًا للدين لكن دون اسقاطه على معتقدات الأفراد، لأن الدينَ – إسلامي او مسيحي او غيرهما – إنما هو لله وَحْدُه.
إن المشروع المأمول قد يبدأ على نطاقٍ ضيق (على غرار نشأة الاتحاد الاوروبي في العام ١٩٥٠ ضمن اتفاق الفحم والصُلْبْ المكون من ست دول) من الدول العربية الأكثر تشابهًا من نواح اجتماعية او سياسية والأقرب فكرا ومنهجًا والأكثر اشتباكًا في مصالحها الاقتصادية والسياسية، مع التاكيد مجددًا على ضرورة بناء ذلك كله على مفاهيم جديدة عنوانها الأبرز تحرير الانسان وعقله وطاقاته. وحيث ان هكذا منظومة لا تقيم للعرق او اللغة جوهر وجودها (وان كان ذلك أساسي ٌبطبيعة الحال) فإن مؤدى ذلك امتدادها لتشمل دولًا مجاورة خارج الجسم العربي مثلُ تركيا على سبيل المثال التي تتقاسم معنا فضاءنا الإقليمي وتأريخنا المشترك.
إن تاريخ هذه المنطقة زاخرٌ بالشواهد على نجاح ما ينشده هذا المقال. فالدولة الأيوبية على سبيل المثال شملت في القرنين الثاني والثالث عشر للميلاد مصر والشام (سوريا والأردن ولبنان وفلسطين) والعراق وتركيا والحجاز واليمن والنوبة وبعض اجزاء المغرب. ودولة السلاجقة العظام في القرن الحادي عشر امتدت لتشمل مناطق وسط آسيا مثل أذربيجان وأرمينيا والعراق والكويت والإمارات العربية المتحدة والأناضول والشام (سوريا والأردن ولبنان وفلسطين). ومع ان هذه الدول قامت على أنظمة السلطنة الاحادية الوراثية الا انها شكلت حالة فريدة في صهر اعراقٍ مختلفةٍ كالعرب والترك والكرد والآسيويين واتسع دينها الرسمي وهو الإسلام ليحتضن أديانا اخرى كالمسيحية واليهودية وشكلت رقعةً جغرافيةً عظمى ازدهرت بها التجارة والأعمال والعلوم والفنون والشعر.
إن اعادة انتاج التاريخ ممكنٌ شريطة أن يراعي ذلك استيعاب وفهم الواقع الحالي. فالاستدلال بالتاريخ يبعثُ على الامل ويشحذُ الهمم. ذلك ان الخلاص الفردي للدول التي اعتمدت وفقدت حلفائها الدوليين التقليديين في ضوء ما كشفته جائحة كورونا يتطلب منها التحرك العملي الفوري لجهة اعادة صياغة علاقاتها الخارجية بمحيطها وتكوين مشاريع إقليمية تشاركية معه في ظل حالة اللاتوازن الدولي المتوقع ان تسود في العقد القادم. وإذا كان الجسم الرسمي العربي مثخناً بجراح الضغينة والفرقة والقُطْرِيَّة وكانت اجهزة الدول ومؤسساتها مثقلةٌ بالترهل وسوء الادارة والتفرد بالقرار والفساد في بعض الأحيان مما يقلل فرص نجاح العمل الوحدوي الرسمي في مثل هذه الظروف، فان ذلك لا يجدر ان يمنعَ النُخَبُ المفكرةُ والشخصيات الوطنية في كل قطرٍ عربي او اي بلدٍ اخر يتشارك بهذا الفضاء الإقليمي وبالمصالح والمبادىء ذاتها من التداعي لاجل زرعِ نواةَ هذا المشروع التكاملي الإقليمي على الصعيد الأهلي وذلك سيشكلُ رافعةً مهمةً للحكومات لتحذو ذات المنهج مستقبلا ولطالما قامت المشاريع الوحدوية التكاملية ابتداءً على اكتاف “مستشعري حالة التغيير”، وهذا المقال إنما هو صَرْخَةٌ في ذلك السبيل.