صراحة نيوز – بقلم الدكتور حسين عمر توقه
باحث في الدراسات الإستراتيجية والأمن القومي
في نهاية الخمسينات وبداية الستينات كانت الحاجات الشركسيات يتجمعن في يوم الخميس مرة كل شهر أي أول خميس في بداية الشهر وكن يستأجرن باصاً خاصاً يأخذهن في رحلتهن الغالية الى مدينة القدس ومن هناك كن قد تعاقدن مع بعض العائلات لإستئجار غرف قريبة من ساحة الحرم .
في تلك الأثناء كان بيتنا مكوناً من طابقين في جبل اللويبده بين المنطقة التي تجمع بين نزلة سينما الفيومي وبين قمة درج الكلحة كنا نسكن أنا ووالدتي وشقيقتي في الطابق الأول وكانت خالتي الحاجة ” قانتات ” أرملة المرحوم الحاج “اسحق لامبج ” تسكن في الطابق الثاني وكان لها بلكونه واسعة يتجمع فيها كل الأقارب والجيران أيام الإحتفالات والأعياد أيام المولد النبوي ويوم العاشوراء وعيد الإستقلال يراقبون مرور الموكب الملكي وفي الليل كنا نطل على الساحة الممتدة بين البنك العثماني والبنك العربي وكان محل عصير الفواكه بالقرب من الساعة الكبيرة مكتظا طوال الليل والنهار وكانت اللوحات المضاءة بالأنوار الملونة تحظى بإهتمامنا . وفي تلك المناسبات كانت الحاجة قانتات توزع علينا الحلوى والنقود وإذا حالفنا الحظ كنا نذهب الى مطعم جبري أو مطعم الأتوتوماتيك لنتناول بعض البوظه أو كشك الفقراء.
كنت أنام في تلك الأيام في منزل خالتي وكنت أستيقظ كل صباح على صوتها وهي تقرأ القرآن بلغة عربية سليمة فصحى رغم أنها لم تتكلم العربية إلا بصعوبة وكانت في بعض الأحيان تجهش في البكاء وهي تقرأ القرآن وبعد أنتهاء قراءة القرآن كانت تفتح الراديو وتنتظر الحديث الديني لسماحة الشيخ عبد الله غوشه وهكذا مضت الأيام وأنا أستيقظ على قراءة القرآن و أستمع الى الحديث الديني.
وكانت الحاجة قانتات ترتدي الثياب البيضاء وتحمل بيدها المسبحة الطويلة وكانت تتمتم بالدعاء وتبتهل الى الله كانت هذه هي بداية يومها صلاة الفجر قراءة القرآن والإستماع الى الحديث الديني. وفي كثير من السنين كان جميع من في الحي ينتظرون عودتها من الحج حيث كرمها الله ورزقها نعمة الحج مراراً كثيرة
وكانت ابنة عمها الحاجة مسلمات “أم سعيد نفش ” تشاركها الكثير من المناسبات الدينية وأذكر من بين هؤلاء الحاجات مؤمنات والحاجة تائبات والحاجة خديجة والحاجة عليمات والحاجة سريا والحاجة فاطمات والحاجة كولستان الجاعوني ” ممرضة” والحاجة حبيبة والحاجة قدسية والحاجة آسيا والحاجة حبناو والحاجة جوسرمه وحجة كواشا والحاجة كولالو والحاجة زوريات والحاجة ساكينات . كن يجتمعن كل إثنين أو كل خميس في ” حلقات الذكر ” أي ذكر الله وتلاوة ألأدعية الدينية والقرآن الكريم وكانت الحاجات من حي المهاجرين ومن الشابسوغ ومن طريق وادي السير ومن جبل التاج ومن جبل النظيف ومن طريق السلط ومن جبل عمان وجبل الحسين ومن جبل الملفوف يخططن الى رحلات شهرية لمدينة القدس والى رحلات الحج السنوية الى مكة والمدينة.
وكانت جدتي ” الحاجة حتخان ” رحمها الله تسكن في ذلك الوقت في شارع وادي السير وكانت متزوجة من الحاج ألاسكر باك. وكانت من عظم جمالها يطلقون عليها باللغة الشركسية اسم ( نِسا داها ) أي السيدة الجميلة .
كانت هؤلاء الحاجات ومن خلال مجموعة ” الذكر” يتجمعن كل يوم خميس من بداية كل شهر وتبدأ رحلتهن المقدسة الى مدينة القدس . ومساء الخميس كن يخترن ركنا من أركان المسجد الأقصى وتقوم إحداهن بإلقاء درس ديني وكان الإزار الأبيض يعطيهن مسحة من الطهر حتى لتحسبهن ملائكة الله على الأرض وغطاء الرأس الأبيض يشبه كتلة من النور وفي نهاية الدرس الديني كن يتوجهن نحو الصخرة المشرفة لقراءة الأدعية والإنهماك في التسابيح ومن ثم كن يسرن قريبا من السور كما لو أنهن يقمن بعملية طواف حول الأقصى والصخرة المشرفة وفي صبيحة يوم الجمعة كانت خالتي الحاجة قانتات تناديني وتعطيني قطعة صغيرة من العملة كانت تعرف بالقرشين وكانت جدتي أيضا تناديني وتعطيني ( شلنا ) أي خمسة قروش أذهب بعدها الى باب العامود كي أشتري الكعك والفلافل المملؤ بالبصل والسمسم . وتتوجه الحاجات الى المسجد الأقصى لأداء صلاة الجمعة والإستماع الى خطبة الجمعة وبعد انتهاء الصلاة كنتُ في بعض الأحيان أتفاجأ وأنا لا أعلم سر هذه السعادة الغامرة والنور المشرق من فوق الجبهات المؤمنة فرغم الدموع من خشية الله ورغم الخشوع والزهد بالحياة كانت هؤلاء النسوة قد أمتلأن سعادة وقناعة وحيوية كأنهن عدن الى الحياة من جديد كن يشعرن بالقوة التي مصدرها الإيمان بالله . كن يشعرن بالقوة لأنهن مؤمنات بالله بلا رياء لأنهن مسلمات قمة في الطهر والبراءه وخشوع في الدعاء.
ويشاء القدر وفي أيام حرب 1967 أن حضر بعض الجيران الى جدتي السيدة الجميلة ” حتخان ” وكانت قد بنت بيتا جديداً في طريق السلط بعد وفاة زوجها الحاج ألاسكر باك وكان يسكن بالقرب منها أم الدكتور نوري شفيق و أم الأستاذ عيسى طماش وعائلة تيف أبو نبيل وأم إبراهيم الكردي وأخبرها بعض الحضور بسقوط القدس في أيدي اليهود ولم تمض فترة عشرين دقيقة من سماعها لهذا الخبر المفجع حتى فارقت الحياة .
ذهبتُ في ذلك الوقت إلى منزل الدكتور طعمة الفانك رحمه الله وهو طبيب العائلة بل طبيب كل الحاجات ومعظم العائلات الشركسية في مدينة عمان ويعرف جدتي وخالتي حق المعرفة ومن سكان جبل اللويبدة ورافقني الدكتور طعمة وأخبرني بأن جدتي قامت بمراجعته قبل أسبوعين وأنها في صحة جيدة . ولما وصلنا البيت أذكر كيف أن الطبيب طعمه قد أخرج قطنة بيضاء صغيرة وعمل على تدويرها بأصابعه حتى أصبحت مدببة بعض الشيء وأدخل طرف القطنة في عينها الزرقاء ولما لم ترمش أخبرني والحزن باد على عينيه أنها فارقت الحياة وأخبرني أنها أول شهيدة في سبيل القدس مع أنها استشهدت في عمان ووضعتُ قرآنها المفضل على بطنها . ولقد ساعدني أخواني وأصدقائي في جبل اللويبده وتجمع كل الأهل والأقرباء وفي الثامن من حزيران في رابع أيام النكسة وفي جنازة مهيبة تم دفن جدتي في عمان وبقيت روحها معلقة بالقدس .