صراحة نيوز – بقلم د صبري الربيحات
الجھود الكبیرة التي یبذلھا العلماء وأساتذة الآثار والانثروبولوجیا والتربیة الوطنیة لم تفلح في بناء قصة مشتركة مقبولة لعلاقة الإنسان بالمكان وبروز الھویة الجامعة. الكثیر من الناس یمعنون في الحدیث عن الاصول والارتباطات والعلاقات الواقعة خارج الحدود باعتبارھا میزة نسبیة. ما یعرفھ الأردنیون عن المكان وأھلھ لا یعدو شذرات متواضعة تم الوصول الیھا من
خلال جھود البعثات والباحثین الاجانب.
في ثقافتنا الشعبیة والوطنیة ما یزال حجم المعروف عن تاریخ المكان واھله الاوائل محدودا للغایة. فإلى جانب كتب المستشرقین والرحالة والوثائق العثمانیة شكلت بعض الاشعار والروایات الشفویة المصادر الرئیسیة لما نعرفه عن أرض وإنسان الأردن في القرون السابقة.
ضحالة المعرفة حول المكان لھا اسباب ومبررات. ففي مرات عدیدة یعزو اساتذة التاریخ والآثار ذلك لغموض التاریخ واھمال الحضارة الاسلامیة لما سبقھا او معاداتھا لھا. فتاریخ الانباط والأدومیین والمؤابیین والغساسنة غیر معروف بدقة. حتى التاریخ الحدیث للقبائل الأردنیة ورجالاتھا التي اسھمت في ادامة الاستقرار وحمایة الأرض والحفاظ على الھویة بقي بعیدا عن اھتمامات الباحثین والمؤرخین.
الكثبر من آثارنا النادرة تسربت إلى متاحف اوروبیة وعالمیة فقد نقلت مسلة میشع إلى متحف قلت آثار نبطیة ورومانیة إلى متاحف اوروبیة وخلیجیة. في حالات كثیرة یجري اللوفر ونُ تجاھل الرواد والمبدعین ممن تركوا بصمات واضحة على حقب مھمة من تاریخ المكان لأسباب ودوافع غیر معروفة.
منذ ایام ھاتفني احد الاعلامیین العاملین على انتاج البرامج الوثائقیة المعنیة بالعلاقة بین الأرض والانسان یدعوني للمشاركة في مشروع اعلامي یتناول حكایات بعض الاماكن الأردنیة. في الحدیث المطول الذي دار بیننا استعرضنا اھمیة الجغرافیا الأردنیة للحضارات التي نشأت في قمم التلال المطلة على حفرة الانھدام، فالادومویون والعمانیون والمؤابیون وفاة جاكسون تفتح جروح قدیمة والغساسنة والانباط اضافة إلى الرومان والاغریق والبیزنطیین اقاموا كیاناتھم على تلال اخل تجویفات الجبال الملونة المشرفة على حفرة الانھدام من الناحیة الشرقیة.
ما تزال بصیرا وذیبان ومادبا والبتراء وعمان وام قیس وجرش وعشرات المدن والبلدات والمواقع الاردنیة شواھد على غنى وحیویة المكان الذي جاءت على ذكره الادیان والرسالات السماویة وكشفت الحفریات غنى وتنوع انجازاته واسھاماته. قبل ان یستوطن الانسان الكثیر من بقاع الأرض الاكثر جاذبیة وخصوبة كانت بلادنا منشأ للكثیر من الافكار والمعتقدات والانجازات التي ساعدت الانسان على البقاء ومكنت الجماعات من تجاوز الكوارث والمحن والازمات التي كادت ان تنھي الوجود البشري فعلى أرض الأردن بدأت صناعة الخبز وعرف القمح ونسجت الحكایات وصیغت المبادئ التي اكسبت الانسان القیم واسھمت في تھذیب الغرائز والحد من نوازع الشر والعدوان.
الدیانات التوحیدیة والرسل واللغة والقصص والاساطیر التي منحت البشریة معنى للوجود ومكنت الناس من العمل معا بعد ان وحدت افكارھم ومشاعرھم وتصرفاتھم لتكتسب القدسیة التي دفعت بالبشریة إلى التدافع على زیاراتھا والتبرك بمائھا ومعابدھا وعبق تاریخھا.
في قاعات المتحف الذي اقیم على جبل نیبو المطل على فلسطین والاغوار وبجوار كنیسة صیاغة التي ارتبطت بروایات وارث روحي یمكن للزائر المرور على مسیرة البشریة التي وصفتھا الكتب السماویة والروایات التاریخیة في اقل من ساعتین.
متحف الحكایة او ”لاستوریا“ الذي یجسد مسیرة الانسان الشرقي على الأرض یشتمل على مجسمات وتشكیلات بصریة تحاكي الحقب الزمنیة والاحداث المھمة في التاریخ البشري.
الجولة القصیرة تمكن الزائر من تتبع مسیرة الانسان على الأرض ومشاھدة مجسمات وتشكیلات بصریة تروي تفاعل الامم والشعوب مع المعتقدات والافكار والادیان التي جاء بھا الانبیاء عبر مسیرة البشریة الطویلة. فبل ان تنقل المشاھد إلى تاریخ الدولة الاردنیة الحدیثة وطبیعة الحیاة السیاسیة الاقتصادیة الاجتماعیة في القرن الاخیر من عمر الأردن.
الاھتمام العربي بالحكایة والمكان ما یزال ضعیفا ومحدودا بالرغم من تكرار الدعوات إلى تطویر ھذا الاھتمام باعتباره وسیلة مھمة في بناء الھویة والانتماء. المفارقة العجیبة ان اعداء امتنا یولون المكان وحكایته اھمیة بالغة فقد خلقوا وصنعوا وزوروا لكل بقعة أرض أو تلة أو مبنى من الاراضي التي احتلوھا حكایة سوقوھا على ابنائھم وعلى العالم في حین اننا تناسینا كل ما في المكان وبعنا ذاكرته او مسحناھا لنصبح أمة بلا تاریخ نقیم على أرض لا نعرف حكایتھا.