صراحة نيوز – بقلم د . ابراهيم بدران
أشار رئيس الوزراء الدكتور عمر الرزاز في حديثه قبل أيام إلى أن أحدا لا يستطيع اختزال الدولة بشخص أو مجموعة أو حزب أو طائفة او قرية او مدينة. وهي اشارة في محلها خاصة في ظل حالة الفوضى والتشتت التي تجتاح المنطقة، وكما يفصح عنه المشهد العربي من أقصاه الى أقصاه. حينما يختزل السياسي أو الحزبي أو المهني أو النقابي أو المثقف الدولة بشخصه، ويصبح بقاء الدولة في عقله ممارساته مرهونا ببقائه، فإن المستقبل لتلك الدولة يحمل من الأخطار الشيء الكثير. وكذلك الحال حين تختزل الدولة الديموقراطية المستقرة والحريات والمؤسسية بالقرارات الادارية، فإن الخطر يكون بنفس الدرجة.
قبل 250 سنة تفاخر لويس الرابع عشر امبراطور فرنسا و قال”أنا الدولة والدولة أنا”. وخلال اقل من 60 عاما، اندلعت الثورة الفرنسية، وسقط الحكم الامبراطوري بكامله. ويسجل التاريخ حالات عديدة حاول أصحابها اختزال الدولة بذواتهم على حساب الديموقراطية والمشاركة والمواطنة، وكانت النتيجة دائما سقوطهم ومن ثم سقوطها: أولا: الحكم الفردي، والذي عانت وما تزال أقطار عديدة في العالم العربي من وجوده. ونظام القذافي يمثل نموذجا صارخا لهذا النوع من الحكم الذي ألغى القوانين والمؤسسات والأحزاب وأعاد صياغتها عشوائيا على هواه. وبقيت الدولة متماسكة من الخارج فقط بسبب تلاقي المصالح الخارجية، ولكنها تآكلت من الداخل. وما أن خرج المجتمع ثائرا حتى سقط القذافي، وسقطت الدولة بكاملها في مستنقع لم تخرج منه حتى الآن، وهي ذات النهاية لجميع الأنظمة الدكتاتورية الفردية. ثانيا: الحكم الحزبي المتفرد، وذلك حين يحتكر حزب واحد السلطة، ويصبح بديلا عن الدولة بقوانينها ونظمها بل وأخلاقياتها وتطلعاتها، كما كان الحزب الشيوعي في العهد السوفياتي وكما هي الأحزاب التي احتكرت السلطة في دول كثيرة ومنها دول عربية. وكانت النتيجة تصدع الدولة من الداخل بفعل مكونات المجتمع الوطني الرافض لهذا الاحتكار والظلم، وخلق المبررات لتدخل القوى الخارجية نتيجة لتعاظم الهوة بين الحكم وبين المجتمع، فتحولت البلاد الى مسرح للتدخلات الخارجية كما هو الحال في سورية وليبيا واليمن والعراق. ثالثا: الحكم الفئوي المصالحي الشخصاني، حين تسيطر على الدولة مجموعات سياسية أو فئوية ذات مصالح ذاتية، فتعود لا تعنيها الدولة ومستقبلها، ولا المجتمع واحتياجاته، وانما همها وجهدها يتركز في السلطة وتقاسم الدولة، والاستعانة بالأجنبي عند الضرورة، لتحتفظ كل مجموعة أو فئة بما لديها من مكاسب. ومرة ثانية يختزل هؤلاء الدولة بفئاتهم، لتتسع الفجوة بين الحكم والمجتمع وتأخذ الدولة في التراجع لتقف على شفا الانهيار كما نجد اليوم في لبنان.
ومن هنا فليس هناك من بديل للقوة والاستقرار، ولا من خيار للتقدم والاستمرار، الا بديل واحد: هو الوطن كما تمثله الدولة بكامل منظوماتها القانونية والاجتماعية والإدارية والأمنية والسياسية والنقابية والحزبية في اطار الديمقراطية، ويربط بينها وينظم أعمالها الدستور والقانون، وهذا ما يجعل القانون فوق الجميع، ويجعل الدولة غير قابلة للاختزال، ويعطي حكم القانون الأهمية القصوى في أداء جميع الأطراف للمحافظة على الدولة – الوطن.
ولذا حرصت مراكز الأبحاث والتقييم ومنظمات المجتمع المدني في العالم على تطوير مؤشر أو دليل لحكم القانون في كل بلد، حتى تعرف القوى المختلفة، ويعرف المواطنون أين تقف دولتهم بالنسبة لسيادة القانون وأين يقفون هم من حكم القانون. وفي التقييم الدولي لحكم القانون لعام 2019 كان الترتيب العالمي للأردن 50 من بين 128 دولة، وعلى مستوى المنطقة كان ترتيبنا الثاني وهو ترتيب جيد دوليا وعربيا. أما دليل حكم القانون rule of law index فقد كان 57 %، وهو موقع متوسط نقف فيه أعلى قليلا من المنتصف مع العلم بأن الأردن مؤهل لأداء أفضل. ويعتمد دليل حكم القانون على عوامل أساسية أخرى كانت الأرقام بالنسبة للأردن على النحو التالي: غياب الفساد 60 %، والنظام والأمن 76 %، وتطبيق النظام 60 %، والعدالة الجنائية
57 %، وانفتاح الحكومة 48 %. إن الترتيب العالمي للأردن في الانفتاح 98 بين 128 دولة وهذه الأرقام بمجملها مشجعة لأن نتقدم الى الأمام سواء في مواجهة الفساد أو تطبيق النظام. أما انخفاض دليل العدالة الجنائية، فهذا يشير الى أهمية اصلاح وتطوير القضاء وناجزية الأحكام، كما أن الحكومة مطلوب منها أن تكون أكثر انفتاحا ومصارحة للشعب، حتى تزداد الثقة المتبادلة بين الحكومة والجمهور، وبالتالي يصبح أكثر مساندة للإدارة وتفهما لقراراتها، والتزاما بتعليماتها، كما تجلى ذلك بقوة في الأشهر الأولى لجائحة كورونا.
إن أولوية المحافظة على الدولة بمنظوماتها وكل مكوناتها تتطلب أن يكون ذلك جزءا من عقيدة وأخلاقيات الأحزاب والنقابات وجميع القوى السياسية والاجتماعية والمهنية. ان الاختلاف مع الحكومة في وجهات النظر وفي السياسات وفي البرامج أمر مفتوح بل ومطلوب، باعتبار ذلك جزءا من الديموقراطية، ومحركا للحيوية والاصلاح والتجديد، ولكن المصلحة الوطنية واستقرار الدولة وانتظام أعمالها تمثل سقفا لا يحق لأحد الاقتراب منه بالأذى أو التعطيل أو الإساءة، وعلينا وفي هذه الظروف الصعبة التي تمر بها المنطقة أن نفيد من تجارب الدول التي تقدمت ونهضت. يختلف الناس مع الحكومة فيذهب صاحب القضية الى القضاء ولكن لا يعطلون مسيرة الدولة، ففي اليابان مثلا غالبا ما يكون الاحتجاج والمطالبة يتمثل بارتداد اشارة سوداء، دون أن يتوقف العمل، أو تغلق الشوارع، أو يترك العامل مصنعه، أو الموظف دائرته.
نحن مؤهلون لأن نأخذ مواقع أفضل في الإدارة وفي الاقتصاد والديمقراطية، وفي حكم القانون، فالمطلوب التوافق وليس التطابق، واستبدال المواقف الحدية بالالتقاء في منتصف الطريق، وعلى مؤسسات الاعلام والثقافة والتربية والتعليم أن تقنع كل أردني بأن الامتثال للقانون ليس ضعفا ولا عيبا، وان الخروج على القانون ليس شجاعة ولا بطولة ولا قوة .. وعلى الإدارة ممثلة بالحكومة ودوائر الدولة المختلفة والمؤسسات الخاصة، أن تدرك ان الديموقراطية والمشاركة ليست تنازلا بل حقا، وأن تقنع المواطن بالممارسة الفعلية لحكم القانون والمواطنة المتساوية، وبالشفافية التامة. لقد أكد التاريخ، أنه باستثناء حالات الحروب، فإن الدول لا تنهار بتأثير الخارج، ولكنها تضعف حين تغيب الحريات المسؤولة، وينتشر الفساد ويتم تجاوز القانون في الداخل. إن دولتنا وهي تشارف المائة عام من عمرها المديد بحاجة لأن نمدها بمزيد من القوة من خلال الديمقراطية الحقيقية والعمل والانتاج، والعلم والمؤسسية والقانون والوطنية، فذلك طريق المستقبل.
*وزير التربية والتعليم الأسبق